سيرة حزبية: خطوات أولى متنقلة في النضال العمالي

النقابات العمالية التي يقودها أخوتنا الأعداء، مناضلو الحزب الشيوعي اللبناني، ليست على السوية الثورية الكافية بنظرنا؛ نحن لسنا حزباً شيوعيا كلاسيكياً، بأطر جامدة، وبتبعية تامة للسوفيات. فكما في حرب التحرير الشعبية، حيث نتبنى آخر النظريات الثورية، مثل نظريتّي حرب العصابات الغيفارية أو الثورة الثقافية الصينية، كذلك في التمحور العمالي: كل الذين جمعوا أو نظموا أو ثقفوا العمال من قبلنا، لم يفعلوا غير إلحاق أولئك العمال بسلاسل النظام الرأسمالي اللبناني. جعلوا العمال وسيلة لمسايرة سلطة النظام الطائفي وتعزيز مواقعهم بداخله. فكانت مطالبهم العمالية جزئية، محدودة، لا يشوبها أي سؤال حول طبيعة هذا النظام الذي يستغلهم، ولا يسمح للعمال المنضوين تحت شعاراته وراياته ومهرجاناته وتظاهراته المحدودة، أن يكون لهم رأي أو قرار في هذا التوجه. أما نحن، في المنظمة، فأكثر جذرية، أعمق نظراً لطبيعة النظام وطبيعة أرباب العمل. لذلك، فنحن البديل عن كل النقابات البيروقراطية البائدة: نحن نقوم بتنظيم لجان عمالية حقيقية، لدينا مادة تثقيفية غزيرة في نشرة «نضال العمال»، فوق اننا نشرح لهم نظرية فائض القيمة وكل ما يدور حولها، وننظمهم ضمن لجان. وبعد ان تنمو هذه اللجان عدداً، وتنتشر في كل أنحاء لبنان، سوف يكون بوسع العمال ان ينتزعوا حقوقهم ودورهم في الإنتاج، عندما يحققون معنا حلمنا ببناء سلطة السوفييتات، المجالس العمالية صاحبة القرار الأول والأخير في مصير ومعالم سلطتنا الجديدة. بهكذا عدّة نضالية نخوض «اتصالاتنا» بالعمال، أصحاب الحق بمشاركتنا في بناء هذه السلطة الثورية العتيدة.

الرفيق صقر لا يمسك خارطة المصانع في لبنان ويقرر، بناء على ضخامة الواحد منه، أو موقعه «الاستراتيجي»، أو قربه من بؤر ثورية أخرى. ربما لا تبادر القيادة إلى ذلك، تترك له حرية الاختيار، أقرب اختيار: فكانت البداية مع عمال الهاتف، في القطاع العام، حيث رب العمل هو الدولة، وليس أحد الرأسماليين أصحاب المعامل. لماذا الهاتف بالذات، حيث تقترب أوضاع العاملين فيه إلى ما يشبه الموظفين غير المثبتين، وحيث لا فائض قيمة ولا قوة عمل ولا من يحزنون؟ فالسبب ليس معروفاً، ولا السؤال أصلا مطروح. كل ما نعيشه الآن بقيادة منظمتنا الآن هو خارج الشك، مفعم الإيمان وأحيانا الإذعان. إذعان هو، في حالتنا الثورية هذه، قمة الثورية، قمة الإخلاص والتضحية، بالعقل خصوصاً؛ بإسكات نبراته وتملْملاته. ولكن، عملياً، لماذا يختار الرفيق صقر عمال الهاتف بالذات، في أولى خطواتنا النضالية أنا والرفيق غسان، فنعلم بعد حين انه يعود إلى كاسترو، رفيقه في الخلية التي تقودنا. فابن عم كاسترو موظف تقني في الوزارة، فرع البلد، وقد تعرف إلى مجموعة من التقنيين الآخرين، الذين لا يقبضون الرواتب الشهرية، إنما اليومية، وفقط الأيام التي يعملون فيها؛ انهم مياومون، لا يعرفون متى يطردون، ولا ضمانات صحية ولا إجازات مدفوعة، ولا شيء على الإطلاق. فما رأيك يا رفيق صقر ان تباشروا تمحوركم العمالي حول مياومي الهاتف؟ ويكون مطلب تثبيتهم صلة وصلنا معهم؟ وهكذا كان. مثل مساعدين معاونين في البوسطة، يجلبنا الرفيق صقر معه إلى البلد، يوقفنا الى جنبه ليرينا كيف سيتكلم مع هؤلاء المياومين، وهو يوزع عليهم نشرة «نضال العمال»، ويقول لهم كلاما تحريضياً. تصل مهارته إلى حدّ ان بعضهم يتحمس، مستعجلا، فيربك الرفيق صقر، الذي يهدئ روعه ويكاد يستنجد بالله ليحل على المياوم الجموح شيئا من التمهّل؛ فالرفيق صقر، مثلنا نحن المناضلين القاعديين، ومثل نظرائه من القادة، لا يملك تصوراً لمراحل نضاله، ولا خطة لتلك المنعطفات التي قرر الخوض في غمارها؛ كأننا مأخوذون كلنا برياح عاتية نحطّ على النقطة التي هدأت بها هذه الرياح، فنجد فيها أرض «تمحورنا» العمالي، ونأخذ بفلاحتها.

على كل حال، لا تدوم رحلاتنا إلى وسط البلد؛ مرتين أو ثلاث، نعود فنلتقي خلالها بالمياومين أنفسهم، صرنا نعرفهم، أحياناً بأسمائهم، نتجنب الإطالة مع المياوم الشغوف بنا، المغالي بحماسته للانضمام الى منظمتنا، ثم ننصرف على موعد بلقاء آخر.

بعد ذلك، وبقدرة قادر، ننتقل إلى معمل التبغ في الحدث. هنا أيضاً، يجد الرفيق صقر من «يفتح عينيه» على تلك البؤرة العمالية بامتياز، حيث البروليتاريا الحقيقية: مصنع وأقسام ودوام وأجر وقانون صرف كيفي جائر واستغلال رأسمالي. الرفيق ميشال، من الجنوب، أوصل الرفيق صقر بعاملة، اسمها جاكلين، هي تقريباً زعيمة عمال المعمل، أشطرهم وأنشطهم. أصلها من قرية تقع في أقاصي الجنوب اللبناني، ونزحت مع أهلها إلى بيروت بحثا عن أمان وعن عمل؛ وها هي كبرت فيها، وصارت العاملة الأكثر شعبية بين عمال معمل الحدث للتبغ. ومنظمتنا في الجنوب اتصلت بها، وهي موافقة على لقائنا. نذهب ثلاثتنا الى الحدث على ظهر دراجة نارية، يستعيرها الرفيق غسان من أخيه الكبير ويحملنا بها نحن الثلاثة، كلما كان مشوارنا خارج خط السرفيس. ونكون على موعد مع جاكلين التي تنتظرنا على باب المعمل، بوجهها الجاف وصرامتها العالية وضفيرة شعرها الأسود الفحمي الكثيف، المتدلية حتى خصرها؛ تدخلنا إلى المصنع بصفتنا صحافيين، وتجول معنا في أنحائه؛ ذلك اننا نحتاج ان نعرف من الداخل كيف يدور هذا المصنع، كيف يكون نظام عمل العمال… لكي نعرف ان نتكلم معهم ونتقرّب منهم. تشرح جاكلين: هنا نضع التبغ القادم من الجنوب، هنا نفرزه إلى «أبواب»: الأول هو الأجود، الانظف، نصنع به سجائر «المارلبورو»؛ وهنا في هذا القسم، التبغ باب ثاني، المخصص لصناعة السجائر المحلية باب أول مثل «سيدرز». وهنا الباب الثالث والأخير، نسميه «تيرسو»، تقول جاكلين مبتسمة (أخيرا ابتسمت)، ومنه نصنع السجائر اللبنانية باب ثاني، أي «البافرا».

من رائحة سيجارة «البافرا» الخانقة، التي أتجنّبها كلما «اتصلت» بعامل، واسترسلت في هذا الاتصال… تلك السيجارة ذات الرائحة الكريهة، كأنها مصنوعة من عفن، هي التي تعلمني أن أربط بين ماركة السيجارة ومدخنها. قبل ذلك، لا أعرف الفرق بين مدخن لبناني ومدخن فلسطيني، بين مدخن فقير وآخر متوسط الحال وأخير أعلى من الجميع، والمتوَّج بالسيجار: تلك السيجارة الضخمة، المتدلية دوماً بين أصبعي القائد أو البرجوازي، يسحب منها نفسا واحداً، ليرتاح منها بعد ذلك، ويراقب الأنظار التي لفتها. بين «بافرا»، اللبنانية إذن… في أدنى السلم الإجتماعي، وبين السيجار، الكوبي، في «أعلاه»، تقف سجائر «كرافن-آي» و»روثمان»، الإنكليزية، بصفتها سجائر المكاتب الفلسطينية الواقعة في منطقة الفاكهاني ومحيط الجامعة العربية في الطريق الجديدة؛ تنبعث منها رائحة الطعام المطبوخ بالسمنة لتمتزج برائحة عرق الفدائيين وغبار مكاتبهم التي تنظف موسمياً. ومن بعدها سيجارة «جيتان»، الفرنسية، من دون فلتر خصوصاً، وهي رائحة المناضلين الفرنكوفونيين، والذين يقلدونهم، رغبة منهم في مماشاة موجة فكرية، مرتبطة بسيجارة بعينها، موجة ثورة الطلاب الفرنسيين لعام 1968. وقد تكون أمتع الروائح، لما يرافقها دائماً من عطور نظافة وكتب وكنبات وثيرة. تبقى سيجارة «المارلبورو»، الأميركية، لمحبي التدخين من أجل التدخين الشغوف والقاتل. ورائحتها الطاغية العنيدة لا تعرف أن تمتزج بأية رائحة أخرى. ثم رائحة التبغ الخاص الذي يستخدمه الرفيق خالد عندما يعتلي غليونه في بداية كل اجتماع. انها رائحة الكسل، بلا ريب؛ رائحة التعرّق تحت الغطاء السميك، العاصي على العطور، مهما قويت. شخصيا، أدخن كل أنواع السجائر، ما عدا «البافرا» والسيجار والغليون؛ أنغمس في عوالم أصحابها، والفضول دائما يدفعني إلى تجريب المزيد. كل سيجارة عندي مثل عالم جديد تتربع الروائح على عرشه.

بعد دورتنا الحثيثة على أقسام المصنع، نتفق مع جاكلين على أن نلتقي مع عدد آخر من العمال الآخرين، الذين حييناهم في بداية زيارتنا المموهة لمعملهم. هذه المرة، يكون لقاؤنا في وسط البلد، في حلويات الصمدي. الاجتماع مثمر ومفيد. نريد أن نقوم بحركة تبين وحدة المصير بين الطلاب والعمال. هكذا أوحي الآن إلى الرفيق صقر. ولديه خطة محكمة بهذا الخصوص؛ سوف نحضر على باب المعمل في الحدث، في موعد محدد، مع بضعة رفاق آخرين من الطلاب، حيث يكون بانتظارنا العمال الذين يكونون قد اتخذوا قراراً جماعيا بقيادة جاكلين، بالإضراب والتظاهر؛ وبعد ذلك، سنسير في تظاهرة عمالية طلابية، ونتجه نحو كلية العلوم، التابعة للجامعة العربية، القريبة من المعمل، فيفتح لنا الرفاق هناك أبوابها على استقبال حافل، يدخلوننا بعدها إلى قاعة المحاضرات حيث سنتكلم كلنا، وبكل حرية، عن وحدة المصير بين الطلاب والعمال. (كيف جرت هذه التظاهرة؟ وماذا كان مآلها؟)

السابق
انتحار روبن وليامز يحفز مشاهير هوليوود للاعتراف بـ”الاكتئاب”
التالي
أبو محجن: ظهر أم لم يظهر ولماذا عاد الحديث عنه الآن؟