لم يتمكّن حزب الله من الانتصار في معارك القلمون، وبدل أن يحسم نصره في يبرود بعد سقوط القصير، أدّى اجتياحه البلدة السورية إلى انتشار بضعة آلاف من المقاتلين السوريين، إسلاميين وغير اسلاميين، في الجرود، وتمددوا داخل الجرود اللبنانية، مهددين نقاطاً حساسة لدى الحزب، ومستنزفين مقاتليه بحرب عصابات طويلة وقاسية في منطقة وعرة يعرفونها تماماً، وصولاً الى احتلالهم بلدة عرسال وما حصل بينهم وبين الجيش اللبناني على أثرها.
لم يعد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله اكثر الشخصيات شعبية في العالم العربي، أو لدى المسلمين حول العالم، وهو في الواقع استبدل تأييد مئات الملايين بزواريب المذهبية الضيقة موظِّفاً حزبه بالكامل من أجل الحفاظ على الماضي المتمثل بالنظام السوري، ومنع تقدم الحياة التي كانت تتجلى في العام 2011 بنهوض عام في الشارع العربي، واضعاً نفسه الى جانب أكثر القوى العربية تخلفاً: الأنظمة، من تلك التي انهار حكامها، الى تلك التي تنازع أو تتخوف من امتداد بقايا لهيب الثورات العربية إليها، أو التي تفضل قتال الدولة الاسلامية على سماع صرخة “الشعب يريد إسقاط النظام”.
نصرالله والى جانب تخليه عن شعبيته كمقاوم ضد اسرائيل فقدَ أيضاً أحد أمرين: إما أنّ أسطورة “نهاية زمن الهزائم وبداية زمن الانتصارات” قد انتهت الى غير رجعة، وإما أنّ مصداقية الرجل تعاني من أزمة جدية.
بدأ نصرالله في العام 2012 بتبرير مقتل عدد من عناصر حزب الله في سوريا بالقول إنهم يقاتلون دفاعاً عن بلداتٍ سكانُها لبنانيون في سوريا، وإنهم يقاتلون بصفتهم الفردية، وليس ضمن نسق يرعاه حزب الله، إلا أن حزب الله وبدءاً من منتصف العام 2011 كان يدرب آلافاً من الشبان اللبنانيين والسوريين في العديد من المعسكرات على القتال، وكانت تتسرب بعض النعوات لمن لم يتمكن من إقناع أهاليهم بالصمت، تشير الى مقتل محازبيه “أثناء أداء واجبه الجهادي”.
في وقت لاحق وضع الحزب وأمينه العام شعاراً واضحاً للتدخل في سوريا: حماية مرقد السيدة زينب. ومع انتشار عناصر الحزب هناك دارت معارك طاحنة مع الشبان السوريين في المنطقة الذين كان كافياً بالنسبة لهم تواجد حزب الله في منطقتهم حتى يتحولوا أهدافاً لهم.
وسّع الحزب في العام 2013 من الشعار الذي يرفعه لتدخله، فأصبح حماية المراقد المقدسة بشكل عام، وأعلن عن تدخله في غير منطقة، وإن كان الاعلان غير رسمي، بل عبارة عن تسريب من تلك التسريبات التي يجيد الحزب توزيعها، فلا يضطر الى إعلان المعلومات، ولا ينفيها طبعاً، فبات واضحاً أنه يقاتل منتشراً من محافظة حلب الى محافظة دمشق وبعض أنحاء من محافظة درعا حتى.
مرة أخرى رفع حزب الله من شعاره السياسي لتدخله في الحرب السورية. قال إنه يتدخل هناك لأنه يريد منع سقوط النظام السوري، وإن الحزب هو آخر المتدخلين في الحرب السورية، بحسب خطاب لحسن نصر الله نهاية العام 2013. وكرر الأمين العام للحزب هذه الفكرة أكثر من مرة، وهي بكل الاحوال ليست بالجديدة، فلطالما اتّهم الحزب أطرافاً لبنانية بالتدخل، سواء أكانت من تيار المستقبل أو من السلفيين في شمال لبنان أو من أبناء عرسال وغيرها من المناطق، ودائماً بقصد تبرير تدخله في القتال في بلد آخر.
لاحقاً أضاف الحزب الى مجموعة شعاراته أن التدخل في سوريا ما هو إلا حرب استباقية، فهو يذهب الى هناك لقتال التكفيريين قبل أن يأتوا “لقتالنا”، مؤكداً على لسان أمينه العام أن اللبنانيين عامة سيشكرونه يوماً ما.
وتتالى توافد جثث الشبان الذين قتلوا في سوريا، وتتالت معها أنباء عن صعوبة القتال هناك وكلفة إسقاط البلدات التي سيطر عليها مقاتلو الجيش الحر والمقاتلون الاسلاميون. إلا أن شيئاً من شعارات حزب الله لم تتحقق لغاية اللحظة.
فقدَ الامين العام للحزب كل ما راكمه خلال مسار طويل في الصراع مع اسرائيل وفي السياسة المحلية اللبنانية. فبعد ثلاثة أعوام من القتال في سوريا تبين أن الرجل يمهّد لجمهوره بخطاب يغرقهم فيه بالحرب السورية، ويغرق معهم لبنان في هذه الحرب ومفاعليها، فمن مقاتلين يندفعون الى الدفاع عن قرى لبنانية في سوريا بصفة شخصية الى تعبئة عسكرية تضم بحسب ما تقدرها بعض الاجهزة المختصة بـ15 ألف مقاتل ميدانياً وحوالى 30 ألفاً في لبنان يبدّلون رفاقهم المنغمسين في القتال في انحاء سوريا، بين الامرين مساحة شاسعة تمكّنَ الحزب من إقناع جمهوره بالقفز فوقها خلال أقل من عامين.
لم تتمكن مجموعات حزب الله من حماية القرى التي تحدث عنها أمينها العام من دون ثمن فادح بشرياً، ولكنها في المقابل وضعت أمن المناطق اللبنانية على المحك، وخاصة مناطق انتشار قواعد الحزب ومؤيديه.
أما المراقد المقدسة ومقام السيدة زينب فكان من الضروري لحمايتها ارتكاب اكثر من مجزرة في عدة مناطق محيطة، ودفع ثمن بشري آخر، إضافة الى رفع حدة العداء السنّي الشيعي، وهو أمر مطلوب بالنسبة لقيادة الحزب لتعبئة الجمهور ودفعه للمشاركة في القتال.
كان ثالثة الاثافي الشعاران اللذان لن يتمكن حزب الله من تطبيقهما: منع سقوط النظام السوري، الذي عملياً سقط من الايام الاولى للثورة السورية، وتبقّت منه أجهزة عسكرية وأمنية مُعاد هيكلتها، وشاء حزب الله أم أبى أمينه العام فإن أي حل في سوريا سيكون عبر تسوية سياسية خارجية الخاسر الاكبر فيها هو سوريا نظاماً وشعباً.
أما الهزيمة الاكبر التي يعد فيها حزب الله جمهوره عبر مواجهة القوى التكفيرية، عندما نشر الحزب في تحريضه الدائم وأجهزة الاعلام القريبة منه، مستوى مرتفعاً من التعبئة لدى الشارع السنّي عامة، أدت في ما أدت إليه الى تحول الشارع من تأييد تيار المستقبل الى تأييد جبهة النصرة، وباتت النصرة والقوات السورية المقاتلة على مشارف مراكز الصواريخ بعيدة المدى التابعة لحزب الله في الجرود اللبنانية، واضطر زعيم تيار المستقبل للعودة الى لبنان بمعية مليار دولار كهبة من المملكة العربية السعودية للمّ الشارع السنّي “قدر الامكان”.
نسي حزب الله درسين، الاول هو الدرس العراقي، حين تلقى سنّة العراق عام 2007 وعوداً بإشراكهم في العملية السياسية فصفّوا تنظيم الزرقاوي بأنفسهم بعد أن احتضنوه لأكثر من ثلاثة أعوام.
وفي انجرافه خلف الوحل السوري نسي الامين العام لحزب الله أيضاً الدرس الذي لقّنه هو نفسه للاسرائيليين في حرب تموز، سر الهزيمة السياسية للاسرائيليين كان حين رفعوا الخطاب السياسي عالياً، وطرحوا شعارات غير قادرين على تحقيقها واقعياً إلا بحال دفعوا كلفة بشرية هائلة، وهو ما لم يرغب به يومها ساسة تل أبيب، وهو اليوم يرفع شعاراته كل مرحلة في سوريا، الا انه حتما لا يملك الكلفة البشرية ولا السياسية المطلوبة لتحقيق الانتصار على الشعب السوري (او التكفيريين كما يفضل تسميتهم) بحسب ما وعد به جمهوره.
التكفيريون يتكاثرون كلما ارسل حزب الله مزيداً من مقاتليه الى سوريا. وعود نصرالله تأكل بعضها، وكل مرة يجد نفسه بحاجة لرفع مستوى خطابه السياسي وتقديم شعارات أعلى، الى ان يكتشف جمهوره يوماً ما أنهم دخلوا حرب الالف عام ولن يخرجوا منها، على الاقل ليس على حياة صاحب المصداقية الامين العام حسن نصرالله، وحين تنتهي مرحلة الحرب سيكون “زمن الانتصارات” قد ولّى مجدداً.