ديموقراطية عربية من دون مسيحيين

هذا المقال الثاني حول موضوع الخطر على مسيحيّي المشرق كتبتهُ بتأثير العديد من تعليقات القراء والآراء التي وردتني سواء على موقع “النهار” أو على مواقع التواصل بعد نشر مقالي أمس الأول: لماذا لا تدعو المسيحية السياسية اللبنانية إلى حالة طوارئ حول مسيحيّي المشرق؟ (22-7-2014)

من أعقد وأصعب المعطيات التي كشفتها موجات “الربيع العربي” أن الديموقراطيّة ليست ضمانة كافية لإنقاذ ما تبقى من الوجود المسيحي في منطقة المشرق العربي أو لتحسين ظروف معاملة المسيحيين في بعض دول المنطقة.
ثورة ميدان التحرير في مصر أتت بشكلٍ ما ولو سلبيٍّ من الديموقراطية. لكن ظهر أن القوى الأصولية التي تصدّرت واجهتها هي قوى أقل ما يقال عنها أنها غير معنية بأولوية المساواة بين المسيحيين والمسلمين بالمعنى الشامل والأعمق للكلمة.
في سوريا، وعلى فرض أن المسار المدني الذي انطلقت منه الأحداث استمر في التصاعد السلمي (وهذا افتراض تجاوزته الأحداث نفسها) فلم تكن هناك ضمانة أكيدة أن لا تساهم “الديموقراطية السورية” في تعزيز التشدّد الأصولي الإسلامي، فكيف وقد ثبت بالملموس الدموي أن المشروع الديموقراطي كانت تحمله نخبة معارضة سورية للنظام من جميع الطوائف معظمها علماني فيما المجتمع ينتج، كما في العراق السني والشيعي، قوى دينية متشدّدة اجتماعيا وثقافيا وسياسياً.
ديموقراطية عربية من دون مسيحيين: أي خيار بائس، هذا إذا ثبت في الجيل الحالي أن من الممكن لمجتمعٍ أقصى تعدديتٓه القومية والدينية وحتى المذهبية يمكنه أن يبني دولة مدنية حديثة وديموقراطية.
في الحقيقة تحتاج موضوعة “الإقصاء” الذاتي في التجربة الحديثة لمجتمعاتنا العربية والمسلمة إلى مراجعة.
هناك تجربة بناء الدولة الوطنية في بلدان مثل الهند وتركيا والتي ولدت من صراع قومي- ديني أدى في كلٍ منهما إلى موجة إقصائية بدت وكأن هذه الدولة الوطنية لا تولد دونها بالنسبة للأتراك أو الأرمن أو اليونانيّين.
بالنسبة لنا في العالم العربي كانت ولادة إسرائيل المنعطف الذي افتتح مسار تخريب نسيج المنطقة التاريخي من طنجة إلى بغداد. لقد جعل هذا التأسيس الأصولية القومية والدينية المدخل العربي الرئيسي لممارسة السياسة.
سمح الحدث الإسرائيلي بإقصاء أو تهميش طبقات وتيارات ومذاهب وأديان بشكل تدريجي. أصبحت الراديكالية هي بنية الفكر السياسي العربي ومن لم يدخل، بالنتيجة، تياراً أو فردا أو جماعةً، في هذا المنحى سيتعرّض للتهميش أو للإقصاء. هكذا عجزت البورجوازية الوطنية المتنورة التي أمسكت بلدانها بعد الحرب العالمية الأولى بعد نجاحها في قيادة هذه البلدان-الدول الجديدة نحو الاستقلال… عجزت عن مواجهة المسألة الوطنية التي تجذّرت بعد ولادة إسرائيل عام 1948. سقطت وسقطت معها تدريجيا أنظمة حكم وأنماط خطاب سياسي.
لنراقب تحوّلٓ المدنِ العربية في الستين عاماً الأخيرة، وتفاقمٓ هجرات النخب والكفاءات إلى الغرب من كل الطوائف والأديان والدول. إنه “إقصاء” الدول الفاشلة لاسيما في الأربعين عاما الأخيرة. لم يفرغ الكثير من هذه المدن من جزء أساسي من تنوعه الطبقي والفكري والديني فحسب، بل أيضا من نخبه الواعدة والخلاقة.
هذا هو الإطار العام الذي انكشفت فيه مسألة تلاشي الوجود اليهودي في مدننا والخطر الجاد الذي يتهدد مسيحيي المنطقة والذي لا تستطيع “الكتلة الأخيرة” المسيحية في لبنان مهما كانت متماسكة اجتماعيا ومزدهرة اقتصاديا وثقافياً وقوية سياسيا أن تتجاهله بل أن تقف مكتوفة الأيدي حياله وهي التي تميّزت عن الكتل المسيحية الأخرى في المنطقة (بما فيها الكتلة المصرية) بكونها كتلة سياسية مؤسِّسة للدولة اللبنانية، وتملك اليوم لكل ذلك وضعية قيادية حيال مسيحيي المنطقة الذين يمرون بأصعب الظروف مثلهم مثل مسلمي سوريا والعراق. لكن الفارق أن تأثير الإقصاء والحروب على المسلمين وبين المسلمين أقل خطورة وجودية من الناحية الديموغرافية بسبب الفارق العددي بين الأكثريات والأقليات، مع أن زميلاً- صديقاً قال لي أمس مناقشاً أن الاضطهاد الأصولي هو أكثر قسوة على المسلمين منه على غيرهم. لن أفاضل بين أشكال القسوة لأن المسألة الجوهرية هي التهديد الأصولي لشخصية مجتمعاتنا التعددية نفسها.
لا نستطيع تجاهل ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت مسيحية مسلمة وأدت إلى فرز على الجانبين. كانت المسيحية اللبنانية المسيحية المقاتلة الوحيدة الباقية في العالم العربي. انتهت التجربة السياسية في الحرب الأهلية بشكلٍ لا يشجّع على تكرارها. لكن دعونا نعترف أن الوجود المسيحي في مدن مثل صيدا وصور وبعلبك كان يتضاءل عبر مسار طويل سبق الحرب الأهلية ومن دون ضجة إلى حد التلاشي شبه الكامل.

وجاءت هذه الحرب لتوجّه ضربة كبيرة وأحيانا قاضية. هذا يجب أن يُدرٓس في السوسيولوجيا السياسية باعتبار “أسلمة” المدن الشامية والعراقية بادئة من مرحلة السلم بعد الاستقلال. حتى أن أنطوان عبدالنور في كتابه القيّم “مدخل إلى تاريخ المدن السورية في العهد العثماني” يلاحظ أن أحياء مدينة حلب كانت مختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين في القرنين السابع عشر والثامن عشر بل حتى ثمة بيوت كانت ذات ملكية مشتركة أي الدار الواحدة التي تعيش فيها عائلتان مسيحية ومسلمة أو ربما أكثر… مما يعني أن انفصال الأحياء داخل بعض المدن الشامية بدأ في القرن التاسع عشر فيما انتقال المسيحيين من مناطق ومدن إلى مناطق ومدن أخرى أكثر تناغما دينياً تفاقم كما هو معروف بعد أحداث 1860 في دمشق كالهجرتين من دمشق وحلب إلى بيروت.
اليوم وصلنا إلى قعر الانحطاط وعنوانه المعروف: داعش في الموصل. لكن ما العمل واستئصال مسيحيي المشرق يترافق مع انحلال دولنا ومجتمعاتنا بكل طوائفها في زمن سيسمّيه أحفادنا المهاجرون في الغرب زمن الحرب الأهلية السنية الشيعية.

السابق
عطلة الصحافة في عيد الفطر
التالي
سيرين عبد النور ومكسيم خليل معاً؟