تعاظمت صدمة الجمهور الإسرائيلي بعد علمه بأمر اغتيال جلعاد شاعر، نفتالي فرنكيل وإيال يفراح بنشر تسجيل المكالمة الكامل بين شاعر ومركز طوارئ الشرطة، حيث يسمع ضحك الخاطفين بعد إطلاقهما النار، من مسافة صفر، على المخطوفين الثلاثة. وطوال 19 يوما جرى التشويش على الناس من جانب الناطقين بلسان الجيش عبر الشعار الفارغ بأن “فرضية العمل هي أن المخطوفين أحياء”، فقط لنكتشف مساء يوم الاثنين أن فرضية العمل كانت معاكسة تماما.
وهذا الإدراك القاسي قاد لكل تلك الظواهر المعيبة في الأيام الأخيرة: تسونامي مطالبات الثأر، المساس بالسكان العرب، مظاهر الحماسة والتطرف اليميني. واغتيال الصبي الفلسطيني ابن الـ 16 من شعفاط، محمد أبو خضير، والذي لا يزال التحقيق فيه جاريا، جر أحياء القدس الشرقية إلى دوامة الاضطرابات والصدامات العنيفة. وعلى خلفية إطلاق صواريخ القسام غير المتوقف من قطاع غزة. والتزاوج الخطير والمتفجر لعنف متعاظم من الداخل والخارج وضع بنيامين نتنياهو وحكومته الثالثة أمام قرارات غير بسيطة ويضع قدرتهم على ضبط النفس والسيطرة عليها أمام اختبار يومي.
وفي هذه الأثناء، لمع ثلاثي نتنياهو، موشي يعلون الواعي ورئيس الأركان الهادئ، بني غانتس، وتجنب حتى الآن التصعيد الأمني. ويبدو أن الرجال الثلاثة هؤلاء يفهمون أن الاختطاف والقتل هما في نهاية المطاف، ومع كل الألم والأسى، حادث محلي، تكتيكي، غير استراتيجي، ليس من النوع الذي يفرض إشعال اللهيب في المنطقة. ويمكن الافتراض أنه مع إيهود أولمرت كرئيس للحكومة وعمير بيرتس كوزير للدفاع، كان يمكن لنصف الدولة أن تقضي يومها في الملاجئ. وحتى ساعة كتابة هذه السطور فإن الثلاثي نتنياهو ويعلون وغانتس، يبذل كل ما في وسعه، باتزان ومسؤولية، من أجل احتواء الأحداث.
ومع ذلك، فإن الشعور في المستوى السياسي هو أن أبواب جهنم قد تفتح في كل لحظة، حتى إذا ليس هناك من يرغب في ذلك. ومخيف التفكير إلى أي حد تذكرنا الظروف الراهنة بتلك التي سبقت نشوب الانتفاضة الأولى العام 1987. ففي ذروة جمود سياسي قتل أربعة عمال من جباليا في حادث طرق، بعد أن صدم سائق شاحنة إسرائيلي سيارة الأجرة التي كانوا يستقلونها قرب حاجز إيرز. وكان الفلسطينيون على قناعة بأن هذا لم يكن حادث طرق بريئا، وإنما عمل ثأري وصدم مقصود ردا على طعن يهودي حتى الموت قبل يومين من ذلك في سوق غزة. والاضطرابات التي نشبت في المناطق أشعلت انتفاضة مدنية، لم تهدأ إلا بعد سنوات من ذلك.
وبنظرة إلى الوراء، فإن تلك الانتفاضة قادت إلى نهاية حكم الليكود، برئاسة اسحق شامير، في انتخابات العام 1992. وليس هذا تكهنا مخبولا، إن قدرنا أن هذا السيناريو يمر حاليا برأس نتنياهو ويؤرق لياليه وأيامه: فبعد خمس أو ست سنوات متواصلة في الحكم، وصفر تقدم سياسي، يأس وتشاؤم يتعاظمان ولا سمح الله أيضا انتفاضة ثالثة. هذه بالضبط هي الوصفة لطرده من ديوان رئيس الحكومة. وإذا كانت ورقته الأخيرة، الهدوء الأمني، تفلت من بين يديه، فمن سيقنع الشعب بإعادة انتخابه لولاية رابعة؟
ابن بيتا
وجلسة المجلس الوزاري المصغر التي عقدت على عجل مساء يوم الاثنين في ديوان رئيس الحكومة في القدس، بعد العثور على جثث الشبان الثلاثة المخطوفين، حملت كل علائم الحادث الأمني – السياسي المثير. وهي من صنف الجلسات التأسيسية التي ولدت في الماضيين البعيد والقريب حروبا وعمليات عسكرية. فالوزراء الذين وصلوا لديوان رئاسة الحكومة فوجئوا، على أقل تقدير، بوجود وزير الإسكان أوري أرييل عند مدخل “الحوض” الذي في طرفه تقع غرفة اجتماعات المجلس الوزاري المصغر. وحامت في المكان مشاعر عودة شديدة إلى الماضي.
وكان قد مر اسبوع على ما كنا شهودا على تلك الفضيحة، حينما وصل أرييل إلى الجلسة من دون أن تتم دعوته، وتم طرده بشكل مخجل من غرفة المداولات كما لو كان متسللا غير شرعي أو مسافرا متخفيا تم العثور عليه في سفينة شحن. وهاكم، وزير الإسكان مرة أخرى هنا، كذلك القط الذي تلقون به من الباب فيعود إليكم متسللا من النافذة. وهذه المرة لم يكن في الغرفة وإنما في الممر، يكمن للوزراء، ينكل بهم بطريقته الودية ويحثهم على الضغط على نتنياهو للبناء والبناء والبناء في المستوطنات، وتسويغ مواقع استيطانية وإنشاء مواقع جديدة، وتوسيع المستوطنات وتسريع خطط – وكل هذا بداهة كان ردا صهيونيا مناسبا على اغتيال الشبان. لأن ما الذي يضر إسرائيل أكثر من أي شيء آخر، وما الذي يجعلها مركزا للغضب والإدانات، وما الذي يبعد دفعة واحدة تجليات التماثل والأسى في الأسرة الدولية مع العائلات الثكلى والجمهور المتألم، أكثر من “إعلانات” عن خطط بناء استيطانية جديدة.
ولم يكن أرييل لوحده. لقد جلب معه قوة إسناد: زئيف حيفر “زمبيش”، باني المستوطنات، من قادة مجلس المستوطنات والمدان في التنظيم السري اليهودي في الثمانينات. وقد حث الاثنان الوزراء مثل آخر المحرضين الذين يجولون بين لجان الكنيست، ومثل ناشطين شابين محترفين ينتظران الوقت المناسب للقفز على صناع القرار الذين يمرون في الدهاليز والهمس في آذانهم دعاية لمن بعث بهم. وهذا هو حالنا، داخل الغرفة تبحث مسائل حياة وموت. خارج الغرفة، حارة، بازار تركي.
ففي الأصل، هذا ما يفعله زمبيش في الحياة. إذا كان ضابط الأمن في ديوان رئاسة الحكومة يمنحه إذنا بالتواجد في المكان الأشد حساسية، في الوقت الأشد شحنا، في الظروف الأقسى، فعليكم أن تثقوا بأنه سيكون هناك وسيحاول التحدي ببناء مئة وحدة استيطانية وأيضا نصف طريق يؤدي إلى المكان. ولكن ماذا عن أرييل؟ رغم كل شيء هو وزير في الحكومة. أين الرسمية، أين الهيبة، وأين الاتزان والمسؤولية؟ صحيح، لقد شق طريقا طويلة منذ تخلص من صندله الأبدي واستبدله بحذاء عندما تولى منصبه الوزاري. ولكن تبين أن العقلية اليمينية الاستيطانية، اللامبالية والمثيرة للجدال، لا تسمح لأي مأساة إنسانية بأن تمر أمامها من دون أن تستغل حتى الفرصة لزرع مستوطنة أخرى على رأس تلة ما في الضفة الغربية، لم يتخل عنها أبدا. إنه دائما سيبقى نوعا من صبية تلال شائخ.
وكجزء من عرف سلطوي مقبول أمر أرييل في اليوم التالي متابعيه في تويتر بالاتصال على رقم هاتف رئاسة الحكومة “والضغط” على نتنياهو كي يسمح له، لوزير الإسكان، بالبناء في غور الأردن. ولا حاجة للإشارة الى أنه في دولة سوية إذا قام وزير بحث أنصاره على تشويش روتين موظفي ديوان زعيم الدولة لتحقيق مصالح شخصية – حزبية له، كان سيقال ويهان في اليوم ذاته. ولا حاجة، لأن هذه ليست المرة الأولى التي يكتب فيه هذا الكلام عن أرييل، الذي سبق وتظاهر ضد قرار الحكومة بالإفراج عن معتقلين في إحدى النبضات. قلنا حارة، وهذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة.
ولم يكن هذا هو المشهد الوحيد الذي أثار استغراب الكثيرين في ديوان رئاسة الحكومة. فقد وصل إلى الجلسة في سيارة رئيس الحكومة وزير الاقتصاد نفتالي بينت. وكان يفترض أن يجتمع الرجلان في الكنيست لكن عندما علما بالعثور على جثث المخطوفين وتشوش جدول لقائهما اقترح نتنياهو ركوب السيارة معه من الكنيست إلى ديوان رئاسة الحكومة. وخشي البعض أن هذه الحميمية المفاجئة بين الاثنين ستنعكس في نتائج جلسة المجلس الوزاري وهو ما لم يحدث. فاقتراحات بينت بإجلاء آلاف من رجال حماس من الخليل إلى غزة، والعمل عسكريا في غزة وفرض عقوبة الإعدام على المخربين القتلة وما شابه، رفضها أغلب الوزراء وعلى رأسهم نتنياهو.
ورغم ذلك بوسع بينت التفاخر بإنجاز لا بأس به على الصعيد الأمني: فالمشهد الذي خلقه في الأسبوع الفائت بمحاولته إدخال شريكه، أرييل، للجلسة احتجاجا على استدعاء متكرر للوزيرين يعقوب بيري ويوفال شتاينتس كمراقبين، ترك أثرا على رئيس الحكومة. فبيري، رئيس شاباك سابق وخبير كبير بالشأن الفلسطيني كان يحضر بشكل منتظم جلسات المجلس منذ تشكيل حكومة الوفاق الفلسطينية، لم يعد يحضر. وهكذا زال الخطر من ناحية بينت.
وعدا بينت، عرض الوزير غلعاد أردان من الليكود خطا متشددا في المداولات. وقد كتبنا مرارا أن اصبع نتنياهو ليست رخوة على الزناد. والأهم، ليس هناك من يدرك حدود القوة أكثر منه. ووزير الدفاع يعلون لا يبحث عن حرب. ورئيس الأركان السابق ليس محرك هجوم وإنما محرك كبح. لكن ابن الكيبوتس السابق الذي غير جلده وصار من أنصار أرض إسرائيل الكاملة ويطمح لزعامة الليكود، يريد الاستيطان في كل أرجاء الضفة. فهذا إيمانه واستراتيجيته لمصالحة اليمين، الداعي للتدمير والقتل ويرى في كل ما فعله الجيش حتى الآن انعدام رد وتخاذلا مقلقا. وقد اقترح يعلون في إحدى الجلسات إنشاء مستوطنة جديدة على اسم المخطوفين، وهي مستوطنة أخرى تغرز سكينا اخرى في الجسد النازف لفرصة، مهما كانت ضئيلة، لتسوية مستقبلية.
يداه اليمنى واليسرى
انتهت جلسة المجلس الوزاري التي امتلأت بالخصام بين يعلون وبينت من دون اتخاذ قرارات. كما أن وزير الأمن الداخلي، اسحق أهرونوفيتش من “إسرائيل بيتنا” طلب ضبط النفس. وقال: “أيضا دمي يغلي. لكن علينا العمل من الرأس وليس البطن. لن يحدث شيء إذا لم نتخذ قرارات، نهدأ، ونعود غدا”. ووبخ بينت الذي طالب باجتياح غزة قائلا: “ماذا نريد من غزة الآن؟ ما الذي فقدناه في غزة؟ عنواننا حماس في الضفة، هناك ينبغي العمل”.
بالمناسبة دعا زعيم حزب أهرونوفيتش، وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، من مكان تواجده في الخارج إلى تنفيذ عملية “السور الواقي 2”. هل أحد يعرف ماذا يريد ليبرمان؟ من جهة ثانية يطالب بإبرام سلام شامل مع الدول العربية والفلسطينيين. ويعرف ليبرمان جيدا الثمن الذي ستضطر إسرائيل لدفعه ولا يبدو قلقا من ذلك. لكنه يحث على إعادة احتلال قطاع غزة، الأمر الذي سيشعل حربا كثيرة الصواريخ وستوتر علاقاتنا مع العالم.
وواضح أن جوهر سلوك ليبرمان ينبع مع صراع قائم مع بينت على أصوات اليمين الأيديولوجي. وتقريبا لا كوابح لزعيم البيت اليهودي. ولا سقف له في الحكومة سوى نفسه. بوسعه تقديم اقتراحات مجنونة في الحكومة وهو يعلم أنها ستدفن في عناوين الصحف وصفحته على فيسبوك. وليبرمان يحاول حفظ صورة المتشدد، كي لا يخسر مواضعه في اليمين غير الأيديولوجي. وهذا سبب اقتراحه بإعادة احتلال غزة.
بدأت جلسة المجلس الوزاري الثانية بعمل استثنائي. رئيس الحكومة وبخ الحضور بشدة بسبب تسريب فحوى الجلسة السابقة. وحذر: “لن أتحمل ذلك”، موحيا بأنه في المرة المقبلة سيعرض وزراءه على جهاز كشف الكذب. في الجلستين الثانية والثالثة لم يحدث تسريب. عدد أعضاء المجلس ثمانية وهو يتوقع أن يحفظ هؤلاء السر. لكن خيبة أمله كانت كبيرة عندما قرأ في الصحف حرفيا ما دار من تبادل اتهامات بين الوزراء.
وعندما وبخ نتنياهو الوزراء كان بعضهم يغض بصره وآخرون ينظرون إلى بعضهم. كان التوتر كبيرا بين الوزراء المعتدلين والجناح المتطرف وصار شخصيا ومريرا. وقد حمل وزراء معتدلون بشدة بعد ساعات من الجلسة الثالثة على بينت محملين اياه كل ذنب الاضطرابات القومية في إسرائيل. وقال أحدهم ان “هذا الرجل بات خطيرا. وهو لا يفهم الفارق بين كونه وزيرا في الحكومة ووزيرا في حكومة فيسبوك. إنه يتصرف كمدون متحمس. اقتراحاته صبيانية في أفضل الأحوال ومجنونة في أسوأ الحالات. وهو يحرض. وهناك رعاع يهودي يعربد ويتظاهر في الشوارع ولبينت دور في ذلك. نحن خائفون”.
رفض بينت الرد على هذه الاتهامات لكن المحيطين به يردون على “المؤسسة الأمنية”، قاصدين وزير الدفاع بالقول ان “هذه وقاحة وعمل غير ديموقراطي، تكميم فم بينت في المجلس الوزاري”. ويتساءلون: “كيف يمكن تحميل بينت المسؤولية عن تظاهرات اليمين؟ المؤسسة الأمنية غير مؤهلة لسماع رأي آخر. وبينت يضغط على مواطن ألمهم لذلك يحاولون تصويره على أنه مجنون. الصورة مركبة، وبينت لا يريد حربا”.
يوسي فيرتر