لا يزال مفهوم “المجتمع المدني” ملتبساً في لبنان، ولم يبذل “المدنيون” جهداً جدياً، بعد، لتوضيحه وتحديد معايير عمله وتوجهاته. ذلك ينعكس على مقاربتنا الأخلاقية والاجتماعية للمواضيع المتصلة بالعمل المدني في لبنان، في ظل نمو “إقتصاد مدني” يستفيد من سخاء “المنظمات الدولية” على بعض الجمعيات المدنية. فالصورة النمطية التي روجّ لها المجتمع المدني، وما يزال، عن الخدمة والنضال المجتمعيين، باتت تحتاج إلى تعديل صريح وشفاف، ولاسيما أنّ حدود الفصل بين عمل الجمعيات لتحقيق مطالب وبين عملها لتحقيق ربحية ما، تزداد التباساً. كذلك فإنّ مفهوم التطوع يحتاج هو الآخر إلى توضيح، خصوصاً أنّ التطوع المدفوع بات يجذب العديد من الشباب الذين يبحثون عن دخل إضافي. وإذا كان التطوع المدفوع ايجابياً بالنسبة إلى الشباب، إلا أنه لم يحسم الجدل في شأن أخلاقية التطوع لقاء أجر مالي لخدمة قضايا اجتماعية.
“شو وقفت علي؟”
تمثّل منظمات وجمعيات المجتمع المدني وجهة أساسية لمتخرجي الجامعات الباحثين عن عمل. فالعمل “المدني”، بالنسبة لهؤلاء، ليس فرصة لدعم قضية محددة فحسب، بل لتقاضي أجر، و”التأسيس” لمهنة مستقبلية عبر ذكر المتخرج طبيعة عمله في الجمعية في سيرته الذاتية. فحين يُسأل مجاز في العلوم الإنسانية، ولاسيما السياسية، عن المكان أو المجال الذي ينوي العمل فيه والعيش منه، تأتي الإجابة سريعة: “أكيد في الـNGO”.
ينقسم العمل في الجمعيات غير الحكومية إلى أنواع عدة، منها العمل الطويل الأمد، والعمل المنوط بعقد لا تتجاوز مدته الثلاثة أو الستة أشهر كحد أقصى. أمّا التطوّع فهو أيضاَ أنواع، وأكثرها مفارقة هو التطوّع المدفوع، إذ تبدو كلمتا “تطوع” و”مدفوع” متعارضتين، لكن هذا النوع من العمل التطوعي يزداد ويجتذب العديد من الطلاب والشباب.
يشير أكرم، وهو متطوع في إحدى الجمعيات، (يتحفظ عن عدم نشر إسمه كاملاً حفاظاً على عمله في الجمعية)، إلى أنه وبالرغم من تواضع بدل التطوع الذي يتقاضاه، إلا أنّه “يشكل فارقاً بالنسبة إلى المراهق الذي لا يزال يتلقى مصروفه من أهله”.
لا يحبّذ أكرم التطوع المدفوع لأنه لا يرى تلازم الكلمتين أمراً منطقياً. لكنه يعترف بأنّه تلقى أجراً لقاء تطوعه في “أعمال مدنية” مرات عدة، علماً أنه تطوع مرات أخرى من دون مقابل.
يقول أكرم: “بما أنّ كثيرين يتلقون أجراً قلت في نفسي: شو وقفت عليّ؟”. فوفق أكرم “عندما عرف العديد من المتطوعين أن بإستطاعتهم تقاضي المال لقاء خدماتهم، صاروا يفضلون هذا النوع من العمل”.
هذا بالنسبة لتلوين حائط أو تسلية أولاد في كرمس أو المشاركة في نشاط أو حملة مدنيين، أمّا العمل الإداري بدوام كامل أو جزئي في الجمعيات المدنية، فهو يتوسع وبات يجذب العديد من الشباب الذين يفضلون العمل في الجمعيات تلك، “لأنها تدفع أكثر”.
فمثلاً، يعمل المصمّم الغرافيكي رامي عيناتي في جمعية “Arc-En-Ciel” أو “قوس قزح”، التي تعنى بالنشاط البيئي وخصوصاً التوعية البيئية. يؤمن رامي بالقضية التي يعمل من أجلها، لكن ذلك لا يمنعه من تقاضي أجر مقابل عمله لـ”القضية”. لذا توجه، كالكثيرين من الشباب، للعمل في منظمات المجتمع المدني “لأنها تدفع أكثر. كما أنها تحتاج دائماً إلى وجوه جديدة إذ أن العقود التي تبرمها مع العاملين تكون لفترة وجيزة”.
يفرّق عيناتي، الذي سبق أن تطوّع في جمعيات عدة، بين الجمعيات ذات التوجه السياسي وتلك المعنية بالبيئة أو حقوق الإنسان. “فالنشاط في المجال السياسي غالباً ما يكون تطوعاً مجانياً، في حين أن العاملين في الجمعيات البيئية والحقوقية يتلقون أجراً ليس مرتفعاً ولكنه عادل”.
وهو يعلل توجهه وزملاءه للعمل في الجمعيات بـ”قلّة فرص العمل، إضافة إلى أن هذه المنظمات تتلقّى تمويلاً خارجياً يمكنّها من الدفع لموظفيها”. يقول “أؤمن بالقضية التي أعمل من أجلها في الجمعية ولقد شاركت مجاناً في العديد من الحملات البيئية، لكن هناك شركات كبرى تدعم هذه الجمعيات، فلمَ لا أتلقى أجراً”.
لكن هل يمكن القول إن المال هو السبب الوحيد الذي يدفع الشباب للعمل ضمن الجمعيات المدنية؟
بالنسبة لرمزي الهبر، العمل في جمعية “RET”، التي تعنى باللاجئين، فرصة لكسب الخبرة، والتعرّف إلى وضع اللاجئين في لبنان وإمكانات مساعدتهم في ظل تقلص دور الدولة في هذا المجال. لا ينكر رمزي الجانب المادي من العمل المدني، “فالعديد من الناشطين لا ينشطون حباً بمساعدة الغير، ولاسيما أن عدد الجمعيات يزداد باضطراد، وهي تدفع رواتب مرتفعة”.
لكن الشق المادي من العمل المدني يضع الشباب أحياناً أمام أسئلة أخلاقية، إذ تتفق غالبية الناشطين على أن تقاضي أعضاء الجمعيات المال يفسد روحية “العمل الإجتماعي”. فبرأي الهبر “كان العمل الإجتماعي حقيقياً حين بدأ على أساس التطوع، لكنّه الآن أصبح تجارة”.
يتفق محمد (يرفض الإفصاح عن إسمه كاملاً) الذي ينشط في الدفاع عن قضية المثليين مع رمزي. يشكل هذا النشاط بالنسبة لمحمد “دفاعاً عن وجوده”. يقول إنها “قضية ذاتية”، ويرفض تحويلها إلى وظيفة جامدة.
يعتبر محمد”أن المثليين في لبنان ليس لديهم الوعي السياسي والاجتماعي الكافي، لكنّهم كمجموعة مهمّشة لديهم الدافع للعمل ضد الواقع القامع”. من هنا فإن هذا النوع من النشاط الإجتماعي يواجه تحديات عدة ويتطلب جهوداً مضاعفة، تقتضي، وفق محمد، تسييس القضية وجعلها شخصية، لا تجريدها..”إلا من المادة”. يسخر محمد من التطوع المدفوع ، إذ “لا ينبغي أن يدفعوا لي لكي أهتم”.
“نضال بالمزاد”
تعمل جمعية “نحن” المهتمة بقضية المساحات العامة في لبنان بطريقة مختلفة. متطوعو “نحن” هم من يموّلون الجمعية عبر إشتراكات شهرية، وهي تضم ثلاثة موظفين فحسب.
يعتبر محمد أيوب، أحد مؤسسي “نحن”، أنّ اللوم لا يقع على الشاب الذي يبحث عن فرصة عمل في هذا المجال، وإنما على الدولة التي لا تؤمن له عملاً في أي من المجالات. لكنّه يرى أن “من ينتظر المال ليس مناضلاً بحق، فالمموّل يعطيك المال لتقيم مشروعاً معه، وليس لتكون مناضلاً”.
في الخلاصة، ليست المشكلة في تقاضي بعض الشباب المال لقاء عملهم في جمعيات مدنية، بل في تراجع الاستعداد لدى الشباب لتقديم خدمات اجتماعية وتطوعية بالمجان. وقد أصبح العثور على متطوعين مستعدين إلى بذل طاقة ووقت من أجل قضية انسانية أو اجتماعية، مسألة صعبة ومعقدة.
فهل يعود ذلك إلى فقدان الشباب الثقة في المجتمع المدني؟ خصوصاً أنّ العديد من الشباب باتوا يعتبرون أن الجمعيات المدنية “تدعي عدم توخيها الربح، لكنّها في الحقيقة تتاجر بالقضايا ومستعدة لشراء النضال الذي يضعه الشباب في المزاد”.