ها هم العرب في صلب سرداب الموت، بعدما تدرجوا من فتن صغرى شهدها تاريخهم العنفي إلى جهاد وجهاد مضاد عابر للمذاهب، أشد فتكاً وتذريراً للإنسان والحضارة والقيم المشتركة. لقد كشفت الأحداث الأخيرة الممتدة على خريطة الربيع العربي المنهك بدمائه وأشلاء ضحاياه، عن حال التغول السياسي ومخاطر الانقسامات الهائلة حول هوية المنطقة، التي وصفها كثيرون بأرض اليباب.
ألا يحق للعرب، مسلمين ومسيحيين، مؤمنين بثقافة العيش المشترك وهم على مشارف الانزياحات الهائلة، وبرغم الحدود الوهمية التي تخطها المذاهب، أن ينعموا بعالم هادئ وبدول حديثة يبنون عبرها مستقبلهم؟ ها هم العرب في عنق المأكلة، مأكلة المو ت والتفتت والقتل والدمار. إنه عالم قديم، أسطوري انفعالي حاضر بيننا. مذهب ضد مذهب، إيديولوجية ضد إيديولوجية، عبث سياسي ضد عبث سياسي، قتل مقابل قتل. إنها لا جدوى الرهانات.
كان للعرب بعض العقل السياسي قبل أن تغزوهم الفوضى وها هم اليوم في مأسدة الجنون. جنون سياسي يتبعه جنون ديني انشطاري تغالبي. ربما نواجه ارتداداً حضارياً يصحبه صخب فظيع من العنف المرتكب باسم الدين. عالم العرب القديم ينهار على أنقاض أهله وآمالهم؛ انهيار سيفضي إلى انفجار العنفيات وإلى انزواء الجماعات على نفسها وتقليص مساحة التواصل ونمو النزاعات المذهبية والإثنية وتراجع الشروط الأساسية/ الأولية الضامنة لبقاء الدولة.
«سايكس بيكو» جديد بأيدي جهاديين أو متآمرين أو إرهابيين، ليس هذا المهم، العالم العربي أمام الخراب. هو في قلب الخراب. ما عادت البنى القديمة قادرة على ممارسة خديعة البقاء، فهي تحمل في جذورها وتكوينها عوامل فنائها. لماذا؟ لأن الأنظمة التي ادّعت التقدمية تحت أي مسمى، وتبنت خطاباً يرفع شعار بناء الدولة وحفظ كرامة الإنسان، عملت من دون استثناء على قضم وهضم كل بشائر التحديث ومارست أشد أنواع العنف باسم قدسية الأبد. ما الذي يجعل حركات عنفية تنمو في أرض العرب، المسالمين في طبيعتهم والمتصارعين على تاريخهم، تنمو بهذا الزخم؟ إنه الخلل والفوضى، حركات تستنزف وتستغل الاضطرابات فتنمو وتتكاثر كالفطر.
يصاب عقلنا نحن أبناء القرن الراهن من العرب الحالمين بمستقبل آمن ودول حديثة، بصدمة كبيرة. فلماذا يقع كل هذا؟ عنف قوي قابض على التاريخ وانتكاسات أعنف تدفعنا عنوة إلى المقاتل. مخطئ من يراهن عـلى معالجـة المأزق الســياسي بالرد التفتيتي/ العنفي الجهادي، ومن الخطأ الفادح تحميل الإسلام التسالمي الذي يتم توظيفه حتى الاستنزاف كل هذه الفظائع. قد يقول قائـل إن الخلاف السُنّي الشيعي الذي تبعه تخندق مذهبي، أنتج مستنقعاً نتناً من الكراهية ونبذ الآخر وتجهيله وإلغائه من الوجود وإخراجه من جنـة المؤمنيـن، غير أن الحاصل ليس صراعاً مذهبياً بل هو صراع سياسي إقليمي على مناطق النفوذ بامتداداتها الداخلية والخارجية، يتحمل مسؤوليـته الجمـيع، من دون أن ننفي وجود نصـوص دينية بشـرية وضعها بعض الفقهاء، هي نتاج الحرب المستـدامة على هوية الإسلام نفسه النقي والبريء؛ نصوص تتناقض كلياً مع الخطاب القرآني الداعي إلى التـسالم والسلم والوحدة؛ توحيد المؤمنين ووحدتهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10).
نواجه تفكك عالم قديم اعتدنا عليه، ألفناه منذ أقل من قرن أي منذ التقسيمات الكبرى التي رسخها الاستعمار، واعتقدنا أنه كتلة صلدة. العرب اليوم يرسمون خرابهم، ويخطون مذابحهم الجليلة وموتهم، وهم يعبرون من يباس إلى جفاف، يفتك بالإنسان والحضارة وأمل العبور. سوريا التي في خاطرنا وذاكرتنا لن تعود كما كانت، لبنان الذي في خاطرنا وذاكرتنا لن يعود كما كان، العراق بدأ بالتآكل منذ العام 2003 بعدما تحول إلى مأدبة إقليمية دولية مستباحة. مصر حاضنة العرب، في جراحها وتطلعات شعبها تؤلمنا بألمها على قدر خوفنا على عروبتنا وعليها وعلى إسلامنا التعايشي ومسيحيتنا المترسخة في هذا الشرق السائل. نتساءل كيف تستوي الأمم وتبني مستقبلها وهي سائرة نحو الانتحار الذاتي الاختياري؟ لا مستقبل عندنا نحن العرب. مؤلمٌ وخطرٌ حجم الموت، موتنا وموتهم.
في كتابه «شرق من حبر» (Orient d’encre) (2003) الصادر في نسخته العربية تحت عنوان «حبر الشرق بين الحروب والصراع على السلطة» أشار المؤرخ والمستـشرق الفرنسـي دومينـيك شفالييه (1928 ـ 2008) إلى مسألتيـن أساسيتين: إن شعوب المنطقة قادمـة على مـا هو أسـوأ، وإن النخب المثقفة لا تلتـزم بمـا تتباهـى وتعلـن عـنه وأنها فشلت في استيعاب الحداثة الأوروبية وتطبيقها في بلادها. استدعاء شفاليـيه مرده سبـبان: سقوط الخطاب النخبوي وفشله في تحديث المجتمع وهو جزء من المشكلة التي نعاني منها، وتنبؤه المبكر بـ«الأسوأ»، أي أن العالم العربي مقبل على مزيد من القمع وتهاوي دعوات الديموقراطية.
إن الجزء الأكبر من العالم العربي أصـبح في مرحلة ما قبل المجتـمع وما قبـل الدولـة بسـبب تلاشي الدول القابضة، وتورط الأنظمة في وأد التحديث ولجم الحريات بدعوى أولوية الأمن ومركزية التنمية، فلم تفلـح في توطـيد الاستقـرار ولا في تفعيل الإنماء المجتمعي والاقتصادي والتنموي. لقد أدى الاستبداد السياسي الذي كرسته أنظمة عسكرية وإيديولوجية إلى خلق الأرضية الخصبة للقوى الهدامة، أياً كانـت هويتـها، وارتكـبت معصـية جحيمية حين رفعت شعـار الأمـن على أولويـة تحديث المجتمع وبناه بمـا يتـضمن هذا التحديث من استيعاب وفهم واعٍ للماضي والحاضر والمستقبل. الإنسان العربي منهك، وثـمة يـأس جمـاعي يولـد عنفاً جماعياً يبدو للوهلة الأولى دفاعياً، إلاّ أنه في عمقه ومسبباته تاريخي وبنيوي، فاقدٌ للرجاء.
كنا وكان المسلمون أكثر رأفة ورحمة ببعضنا قبل الفورات المذهبية التي أيقظها خطاب إقصائي يتورط فيه الكل، تآلفنا وتآلفوا، تعايشنا وتعايشوا في فترات مضيئة فكيف تُسترد ثقافة التعايش وسط هذا الصخب وجلجلة الهروب من الانسداد التاريخي والفشل السياسي إلى التقسيم الجغرافي والهوياتي الذي سندفع جميعنا ثمنه، بعدما خلقت المذاهب حدوداً وهمية تحت ذريعة النقاء، فلم تدرك أن الحراك الذي شهده الإسلام المتعدد، هو جزء من حركيته وثرائه وتنوعه الذي ينبغي الاستفادة منه بتكريس خطاب ديني هادئ وعقلاني وتنويري يُقر بحق الآخر في الاختلاف لا الخلاف.
المنطقة الآن تسير بخطة سريعة نحو الخراب ويجري إقحام الدين بالقوة؛ بقوة الدم والنار. واقع مخيف ومرعب وهستيري. نحتاج إلى تعميم السلام وإلى معالجة الأزمات السياسية والمجتمعية والدينية بإعلاء لغة العقل الضابط للدولة والمجتمع والدين. فهل يتعظ العرب من مقاتلهم وفتنهم وخرابهم ويفعلون كما فعلت الأمم الأخرى التي قطعت مع الانتقام والثأر من الآخرين ومن الذات ونهضت بغدها؟ ليت نعم.