قراءة نقدية في مذكرة بكركي الوطنية

بكركي

تتشكل المذكرة من مقدمة وفصول أربعة هي الثوابت الوطنية والهواجس الوطنية وأسس الانطلاق نحو المستقبل وتحديد الأولويات والخاتمة. وتعتبر المذكرة في الفصل الأول وتحت عنوان العيش المشترك، أن هذه المقدمة «هي لب التجربة اللبنانية» وأن صلب العيش المشترك هو «الانتماء إلى مشروع حضاري التقى فيه الإسلام والمسيحية وأتيا به برهاناً على أن الاخوة بين البشر وأبناء الحضارات والديانات المختلفة ممكنة تاريخياً» وأن المشروع الحضاري هذا قد أرسي على ثوابت ثلاث: الحرية والمساواة في المشاركة وحفظ التعددية «وهي ثوابت في أساس تكوين الدولة اللبنانية».
وفي ثانياً وتحت عنوان الميثاق الوطني فهو بحسب المذكرة «حال تسبق الدستور وتؤسس له وهي ناظمة للعمل السياسي وضابطة له» فهو إذاً ليس «مجرد تسويات أو تفاهمات عابرة يقبل بها اليوم ويراجع في شأنها غداً» والالتزام بالميثاق الوطني يعني أنه «قاعدة لتأسيس دولة» و«أساس لبناء علاقات هذه الدولة مع الخارج».
وفي ثالثاً وتحت مسمى الصيغة، فهي «تجسيد لحكمة الميثاق في تنظيم المشاركة الفعلية بين المكونات اللبنانية في النظام السياسي»، وأن إقرار دستور الجمهورية الأولى إزالة الطائفية بعد حين «لم يتعرض للتمثيل الطائفي في المجلس النيابي لاعتباره مكرساً للخصوصية اللبنانية، وربط إزالة الطائفية في وظــــائف الدولة والحكومة بشرط عدم المساس بالعدالة والوفاق وبعدم جلب الضرر على الدولة».
في الهواجس الراهنة، رأت المذكرة «أن ما ينقذ التجربة اللبنانية هو مضي اللبنانيين قدماً في استكمال إنجاز بناء الدولة طبعاً وفقاً للميثاق والدستور» وحذرتهم بألا «يكون المشروع الوطني غير قابل للتطبيق» ومن نتائجه «بروز الأمن الذاتي» و«الاستقواء بالخارج»، كما حذّرت المسؤولين السياسيين «من استمرار التفرد والتعنت والقمع بالسلطة، فذلك سيأخذ لبنان نحو الهاوية».
وفي القضايا المتصلة، وقد عددتها أولاً عدم الوضوح في تحديد المصلحة الوطنية المشتركة العليا «وتكبيل المؤسسات الدستورية ورهنها بخيارات الأفرقاء» و«عرقلة تكوين السلطة» و«إقحام لبنان في قضايا الجوار»، كما طالبت المذكرة بحياد لبنان الإيجابي «وتحييده عن الصراعات بين المحاور الإقليمية والدولية كما نص عليه إعلان بعبدا».
الفصل الثالث وبعنوان «أسس الانطلاق نحو المستقبل» طرحت المذكرة على اللبنانيين «أي مستقبل يريدونه وعلى أي أسس»، وهذا السؤال يعني العهد الرئاسي الجديد الذي سيقود لبنان إلى الاحتفال بالمئوية الأولى على قيام لبنان الكبير.
تحت عنوان المصلحة الوطنية العليا، أشارت المذكرة إلى أن لبنان «إما أن ننجزه معا أو لا يكون»، وأن الحوار الداخلي «يجب أن يحصل في إطار المؤسسات»، وضرورة التأكيد على الميثاق بالعودة إلى جوهره والتمسك بإبعاد صيغة «لا شرق ولا غرب»، ما يحكم على لبنان «خدمة محيطه المشرقي والعربي وتبني قضاياه المحقة» والإصرار على «أحقية القضية الفلسطينية» و«إحلال السلام في سوريا» وعودة «النازحين مكرمين» و«الانفتاح والتواصل» و«تفعيل دور لبنان في العالم العربي»، والتأكيد على «صون الدستور والتقيد به» بالحفاظ على المكتسبات الدستورية، وفيها «تطبيق المناصفة الفعلية» والالتزام الجدي ببناء الدولة العادلة والقادرة والمنتجة «وحصرية القوة العسكرية في يد الشرعية، والانفتاح على الانتشار اللبناني وضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهلة الدستورية وخارج أي جدل دستوري».
في الفصل الرابع حددت المذكرة الأولويات «باستكمال بناء سلطة الدولة» و«وضع قانون انتخابي نيابي جديد» و«إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة وتطبيقها»، و«استكمال تطبيق اتفاق الطائف» و«تأليف حكومات كفية» و«الاهتمام بالشباب» وتعزيز «مساهمة المرأة»، و«تحفيز المواطنة» والعمل على «إصلاح إدارة الدولة»، و«تعزيز إسهام لبنان في عملية خروج العالم العربي من مخاضه الراهـــن»، و«الحرص على ضمان متابعة تنفيذ خلاصات مجموعة الدعم الدولية للبنان».

 
وفي الخاتمة استعادة لمقولة الطوباوي يوحنا بولس الثاني «إن لبنان هو أكثر من بلد إنه رسالة حرية ونموذج التعددية للشرق كما للغرب».
اتّسمت هذه المذكرة بالوضوح والفهم العميق لطبيعة التركيبة الوطنية وللأخطار المحدقة بالصيغة الميثاقية والعيش المشترك ولم توارب في السياسة، بل شخصت الداء ووصفت الدواء، من مثل مقاربة الأمن الذاتي والسلاح غير الشرعي وحصرية السلاح بيد الدولة، وتحويل الأزمات السياسية إلى أزمات وجودية، والحرص على إعادة الاعتبار للدستور والميثاق والصيغة والعيش المشترك، والتمسك باتفاق الطائف، فضلاً عن تفعيل دور المسيحيين في إدارات الدولة والقضاء والجيش والقوات المسلحة الأخرى، وإعلان الخوف من أن يكون المشروع الوطني غير قابل للتطبيق. هذا فضلاً عن المطالبة بحياد لبنان وتحييده عن المحاور الإقليـــمية والــــدولية، وتبـــني إعلان بعـــبدا وإقرار قانون انتخـــاب جديد واللامركزية الإدارية وسواها.
لقد أشارت المذكرة إلى أمر خطير نعيشه هذه الأيام وهو ما يجري من عرقلة لتكوين السلطة عن طريق تعطيل الانتخابات النيابية، بحيث مدد للمجلس الذي لم يجتمع إلا للتمديد لنفسه والتجديد لمكتبه واللجان، وانقضاء أحد عشر شهراً في الفشل المتمادي بالتوصل إلى تشكيل حكومة في وقت تحتاج البلاد فيه إلى حكومة إنقاذ في الحــــد الأدنى، وما جرى من تفشيل الاستحقاق الرئاسي ســــعياً إلى تفريغ المركز الأول الممثل لمشــــاركة المسيحيين في تركيبة السلطة.
لا يمكن النظر إلى المذكرة إلا من زاوية مصدرها. فهناك إقرار من جميع اللبنانيين بأهمية مرجعية بكركي، ليس فقط كممثلة للكنيسة المارونية بل أيضاً كمرجعية وطنية يجمع اللبنانيون جميعاً على اعتبارها هكذا. فمن حق بكركي إذاً إصدار ما يمكن تسميته مذكرات وطنية تتناول قضايا الوطن والمواطنين، وهناك فئات واسعة منهم تلتزم بموقفها وبالوثائق التي تصدرها. والسؤال في معرض هذا السياق: هل سيلتزم من هو معني بهذه المذكرة من القادة والفاعليات المسيحية المختلفة بمضمونها أم أن بعض المواقف وربما الأفعال ستكون على نقيضها؟ فالدعوة الأولى توجه إليهم للالتزام بمضمون المذكرة أولاً، فعلاً وقولاً. ولا تأتي دعوتنا من عبث بل هي مستنبطة من مواقف هؤلاء المعنيين أنفسهم، إذ لولا ذلك كيف يمكن لنا أن نفهم أن المختلفين عــــمودياً على حصرية السلاح وقوة الدولة وتحييد لبنان عن المحاور قد أيّدوا هذه الوثيقة دون تحفظ.
من جهة ثانية، وبعد التأكيد على الثوابت التي ننحاز بالطبع إليها وإلى أهمية تأكيدها، توقفت عند أهمية أن يرد في المذكرة الإعلان عن ضرورة استكمال تطبيق اتفاق الطائف، وهنا بيت القصيد. فسيد بكركي طالب سابقاً بضرورة عقد مؤتمر تأسيسي جديد لإصدار عقد اجتماعي وسياسي جديد بين اللبنانيين. وقد كنت أنا من بين معارضي هذا الطرح لأنني على يقين أن فتح هذا الملف في هذا الوقت بالذات، ليس بالتأكيد في مصلحة المسيحيين ولا لبنان. وأبرز دليل على ذلك هو ملاقاة بعض الأصوات المنطلقة من جهات مختلفة من المؤكد أنها غير راضية عن الحصة التي أناطها بها اتفاق الطائف. فالمناصفة مثلاً ليست حقاً مكتسباً للمسيحيين إذا أعيد النظر في اتفاق الطائف، وكذلك مركز رئيس الجمهورية الماروني. فهناك من يطالب بإعادة النظر في الحصص الطائفية في تركيبة السلطة، ولديه من القوة والإمكانيات ما يخوله تقديم هذا الطرح والحصول عليه، هذا فضلاً عن غياب أي وفاق لبناني حول إعادة النظر هذه، مع التــــذكير بأن اتفاق الطــــائف لم يكن ليولد لو لم يتوافر له وفاق لبنـــاني لبناني وعربي عربي ودولي دولي.
تحدثت المذكرة عن الهواجس، فهل فعلاً المسيحيون مهجوسون أم مهمومون؟ بمعنى آخر هل يشكو المسيحيون من هواجس أم من هموم في هذه المرحلة؟
لعل المشهد المسيحي ينطق بنفسه نتيجة الانقسام الحاد داخل صفوف المسيحيين وشكواهم المستمرة، أولاً بتفريغ إدارات الدولة من العنصر المسيحي تدريجياً وتضاؤل أعدادهم في الجيش وسائر القوات المسلحة، وثانياً ببيع الأراضي.
لماذا مرت المذكرة مرور الكرام حول هذه الأخطار المهددة لوجودهم ولم تشر حتى إليها بل اكتفت بتأكيد المؤكد بين غالبية الشعب اللبناني؟ ألم يكن أولى من مذكرة بكركي أن تطلق صفارة الإنذار وترفض الوقائع الجديدة التي يحاول بعض اللبنانيين فرضها على الأرض؟
ثم لماذا أغفلت المذكرة تحديد الأسباب التي أدت إلى هذه الهواجس كما أسميتها بتجهيل الفاعل وأشارت في سياق عام إلى الأمن الذاتي وحصر السلاح بيد الشرعية والسلاح غير الشرعي، ولماذا لم تشر بأصابع الاتهام وهي أي بكركي لا تشكو من قلة الجرأة إلى من يتمتع بإمكانيات تفوق إمكانيات الجيش ويمارس أعمالاً ونشاطات خارج الحدود وقرار الحرب والسلم بيده وليس بيد الدولة؟
فكيف يمكن الجمع إذاً بين بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبـــــنانية كما تقول المذكرة، ووجود مناطق واسعة خارج سلطــــتها بفـــعل عناصر محلية وبتغطية إقليمية؟
أحسنت المذكرة بالمطالبة بحياد لبنان وتحييده عن المحاور الإقليمية والدولية، ولكن فاتها ذكر صعوبة تحقيق هذا الأمر ما بقيت بعض الطوائف على ارتباطها بدول في الخارج. فلماذا لم تشجب الارتباط الصريح لبعض القوى السياسية بمحاور الخارج ولماذا لم تشر إلى أهمية أسلوب الحياة اللبنانية الذي بني عبر التاريخ على قيم الانفتاح والتسامح ونبذ التعصب والإلغاء؟ فالمعروض أمامنا في لبنان نتيجة الصراع السني ـ الشيعي الذي أغفلت المذكرة ذكره صراحةً وإن أشارت إليه مواربة حتى لا يتضايق أحد المعروض أمام اللبنانيين اليوم إما النموذج السعودي وإما النموذج الإيراني، الأول جلب للبنانيين بعض المنافع نتيجة تدفق أمواله إلى لبنان وعمل مئات ألوف اللبنانيين فيها، ولكن جلب إلينا الأفكار المتطرفة والعودة إلى القرون الوسطى في بعض التفسيرات الفقهية التي تكفر هذا وتلغي ذاك، بينما يقدم النموذج الإيراني طهران على مقربة منا في الطقوس الدينية والأزياء والعادات والأخطر الارتباط الفقهي بنظرية ولاية الفقيه.
لا يسع المجال للحديث أكثر. أكتفي في هذه العجالة بنقطة أخيرة تتصل بالإشارة إلى القرار 1701 وقد كنت أفضل أن يستكمل بالإشارة إلى اتفاق الطائف في فصله الثالث الذي ينص على تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سلطة الدولة اللبنانية على جميع أراضيها والعمل باتفاق الهدنة مع إسرائيل كما نص الاتفاق.
أعتبر هذه المذكرة بالرغم من بعض الملاحظات والهفوات وثيقة ميثاقية تعيد الاعتبار إلى مقدمة وثيقة الوفاق الوطني التي أرست دعائم هذا الميثاق وأعطته مضموناً حتى لا يبقى هذا الميثاق قائماً فقط على سلبيتين كما قال جورج نقاش بأنهما لا تصنعان أمة.

السابق
ولاية دمشق القلمون التابعة لـ’داعش’ تتبنى تفجير الانتحاري ’دو روي’
التالي
الرسالة من بيت الدين: لبنان بألف خير

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب