تلوّث الليطاني بلغ «خطوطاً حمراء»

 يقف لبنان على أعتاب زمن دخوله إلى نادي الدول المنتجة للنفط والغاز، كما يأمل أيضاً بالوصول إلى بيئة صحيّة، تشمل تحقيق حلم قديم لدى اللبنانيين: الاستفادة المثلى من مياه نهر الليطاني.
ويقاسي الليطاني عللاً كثيرة يربط بينها الجشع والإهمال البشري. ويعتبر النهر شرياناً أساسيّاً للحياة في لبنان الذي يوصف بأنه «قصر الماء» في المنطقة العربيّة.

وللأسف، تحوّل النهر مجرىً مكشوفاً لمياه الصرف الصحي، ومكبّاً لنفايات القرى المتاخمة لمجراه، ومرتعاً للأمراض القاتلة.

تدهور لا توقفه الأوراق

منذ ثمانينات القرن الماضي، تدهورت أحوال الليطاني، بل دخلت مرحلة الخطر الشديد. وتحوّل النهر مصدراً لقلق عميق بسبب التلوّث البيئي. ورافقت هذا التدهور عشرات الدراسات والخطط والمؤتمرات وكلمات مكرّرة بقيت حبراً على ورق، في أجندات نظام سياسي يقال إنه «مريض» و»نزيل دائم» في العناية الفائقة.

وإذ يبدي النائب السابق الدكتور إسماعيل سكّريّة اهتماماً كبيراً بشؤون البيئة، فإنه يعرب عن قناعته بأن النهر يتلقى كميّات كبيرة من مياه الصرف الصحي التي تأتي من المنازل ومخلّفات المعامل والمستشفيات ومحطات الزيوت والوقود. ويذكّر بأن تلك الملوّثات تحتوي مواد مضرّة تتسرب إلى باطن الأرض وتمتزج مع المياه الجوفية، مشيراً إلى أن المُلوّثات تشمل الرصاص والزنك والفوسفات.

ويعرب سكّريّة عن شكّه في وجود علاقة بين تلوّث مياه الليطاني وبعض الإصابات بأمراض في الجهاز الهضمي، ربما تشمل السرطان، كاشفاً أنه أشرف على معالجة مجموعة من تلك الحالات في المنطقة التي تحيط بمجرى النهر في سهل البقاع اللبناني.

وفي مؤتمر نظّمته «الجمعية الجغرافية اللبنانيّة» في بيروت أخيراً، حول «الموارد والمخاطر الطبيعية والبيئية في لبنان»، لفت الدكتور بشار قبيسي إلى وجود تناقص كبير في المياه الجوفية على ضفاف النهر، خصوصاً في المناطق الزراعيّة.

وبيّن قبيسي، الأستاذ في كلية العلوم في «الجامعة اللبنانية»، أن معالجة تلوّث الليطاني تستغرق خمس سنوات، وهي تفتح الباب أمام وضع خطط إنمائية وسياحية على النهر بكلفة أولية تبلغ 342 مليون دولار. ولكن، لا يوجد تمويل لتلك الخطة.

وتشمل إجراءات وقف التدهور البيئي والصحي لنهر اليطاني، السيطرة على مصادر التلوّث، ومعالجة مياه الصرف الصحي في محطات متخصّصة، إنشاء محطات لمعالجة النفايات الصلبة، وإلزام مصانع المنتجات الزراعيّة والمسالخ، معالجة السوائل والفضلات الناتجة من التصنيع وعمليات ذبح المواشي. كما تشمل رفع مستوى الوعي اجتماعياً على مدى الضرر الحاصل لمياه النهر.

وإذ طبّق لبنان معايير دوليّة في رقابة المبيدات، فإنّه منع حتى الآن خمسة وعشرين مبيداً، سبعة عشر منها تترك آثاراً في المياه.

أين حلم عبد العال؟

في خمسينات القرن العشرين وستيناته، وضع المهندس اللبناني الراحل إبراهيم عبد العال، خطّطاً علميّة للاستفادة من نهر الليطاني في الشرب والري وتوليد الكهرباء. ولم تنجز تلك الخطّط القيّمة لحد الآن.

ويلاحظ وزير الداخلية السابق مروان شربل أن محطات التكرير المشادة على النهر، لم يجر ربطها بشبكات المجاري الصحيّة، كما أدّت العشوائية في بناء محطات التكرير إلى اختلاط مياه الصرف مع مياه نهر الليطاني.

ويضمّ سهل البقاع الذي يحتضن معظم مجرى نهر الليطاني، ستة محطات لتكرير المياه المبتذلة، لكن الفعاليّة غائبة عنها! صحيح أن محطة بعلبك منجزة، لكنها لا تعمل. وجرى وضع الحجر الأساس لثلاث محطات تكرير في البقاع الأوسط (في بلدات الفرزل وأبلح وزحلة)، لكن أعمال تشييدها لم تنطلق حتى اليوم.

ويقدّر معدل مياه المجاري الآتية من قرى صغيرة لتصب في الليطاني، بقرابة 200 متر مكعب يوميّاً. وتساهم الملوثات الزراعيّة الناتجة من استعمال مواد كيماوية ومبيدات، في مشكلة تلوّث الليطاني. وتضاف إليها النفايات المنزلية السائلة، والمياه المبتذلة، ونفايات مزارع المواشي وغيرها.

والمفارقة أن هناك قرى في البقاع الأوسط تغيب عنها شبكات الصرف الصحي، على رغم قربها من محطة لتكرير مياه الصرف الصحي أنشئت أخيراً في تلك المنطقة.

وتشير دراسات كثيرة إلى أن الريّ بمياه نهر الليطاني التي باتت ملوثة بجراثيم ومواد كيماوية، يؤدي إلى انتقال تلك المُلوّثات والبكتيريا إلى التربة ومنتجات الزراعة، ما يعني وصولها إلى أجساد البشر.

ورصدت دراسات أخرى وجود علاقة بين تلوّث الليطاني من جهة، وزيادة الإصابة ببكتيريا التيفوئيد وفيروس التهاب الكبد الوبائي.

كذلك بيّنت دراسات اخرى وجود مواد كيماوية في مياه الشرب الآتية من الليطاني بمعدّلات تفوق الحد الأقصى المسموح به من «منظمة الصحة العالمية».

وبسبب تلوّث مجرى نهر الليطاني ارتفع معدّل التلوّث في بحيرة القرعون، خصوصاً بأنواع من البكتيريا تسبّب أمراضاً معويّة ورئويّة وعصبيّة.

ويخشى المتابعون لملف تلوّث نهر الليطاني الذين شاركوا في مؤتمر «الجمعية الجغرافية اللبنانية» المشار إليه آنفاً، أن يكون مصير قانون أقره البرلمان بتخصيص اعتمادات لتنظيف مجرى نهر الليطاني، مشابهاً لسواه من الدراسات والقرارات الحكومية: النوم في أدراج الوزارة والبرلمان. وارتفعت أصوات لتندد بالسياسة الحكومية في مكافحة تلوّث هذا النهر، مشيرين إلى أنها اقتصرت منذ عشرين سنة على وضع دراسات وأوارق مشاريع، لم تغيّر شيئاً في الواقع القاتم للمياه الملوّثة في النهر.

السابق
مفارقات تركية
التالي
هل يتعثّر انتشار القوة الأمنيّة في عين الحلوة؟