نحن الآن خمسة عشر رفيقاً، بينهم خمس رفيقات، كلنا لهفة لتلقي التدريبات العسكرية. يجمعنا الرفيق النبيل في جلسة دائرية على الأرض داخل المعسكر، يطلب من كل واحد منا التعريف باسمه الحركي. وجوه الرفاق كلها مألوفة. هم مثل بقية رفاق الحلقة، طلاب جامعيون، من المشاركين المنتظمين في التظاهرات والمهرجانات، التي تنظمها المنظمة بالتنسيق مع الفصائل الفلسطينية . نحن جالسون إذن حول الرفيق نبيل، نتشوق للبدء بتطبيق نظرياتنا الثورية. بعد التعارف الحزبي، وبالعبوس نفسه، يلقي علينا الرفيق نبيل محاضرة سياسية عسكرية. لا جديد في كلامه السياسي، غير تكرار السخرية من شعارات يروجها الإقطاع السياسي الحاكم، واليمين المؤيد له، المتآمرين على قضيتنا: «لا غالب ولا مغلوب»، «قوة لبنان في ضعفه»… فنرى أخيراً أسنان الرفيق نبيل… ها! ها! ها! ان وجودنا هنا يدحض هذه الشعارات، التي لا قيمة لها، مثل تلك القرنبيطة التي تتوسط علمنا… ها! ها! ها!؛ نسخر من هذا الوطن المسخ، فتزيد حماستنا لبذل روحنا ودمنا من أجل تحطيمه وبناء مجتمعنا الثوري. الموت هيّن من هذا المنظار. لا قيمة للحياة من دون هذه الوقفة النبيلة، مرفوعة الرأس؛ وتكاد دمعتنا أن تتدفق على خدودنا، فرحاً واعتزازاً، لولا رجولة الموقف. نحن هنا من أجل تغيير مجتمعنا جذرياً؛ وهذا لن يتحقق إلا بانتصارنا في حربنا التحريرية، والتي نستعد لها بكامل شوقنا للقتال.
بعد القسم السياسي من محاضرة الرفيق نبيل، ننتقل إلى القسم العسكري: الإستراتيجية والتكتيك، تجربة الثائر البوليفي غيفارا، والجنرال الفيتنامي جياب، التي سوف تقود فيتنام إلى النصر المظفر. الهجوم، الدفاع، الخديعة، المعنويات، التنظيم، التعبئة، الخدعة، الكمين، الكرّ والفرّ، الحاجز، حرب الشوارع، حرب العصابات، التسلح الشعبي، المجموعات الصغيرة… كلها يستعرضها الرفيق نبيل من دون أن تحوز على كامل انتباهنا، ومعظمنا شارد في فضاء هذا المعسكر الغريب علينا، نستقبل هذه الغرابة بنوع من الترحاب الإرادي، لزوم الإلتزام والنضال. ثم ان طريقة الرفيق نبيل غير جذابة. يتكلم وكأن الكلمات تزدحم في فمه، كأنها كتلة جامدة، لا يخرجها إلا بعصرها. ربما هكذا يتكلم العسكريون، أقول لنفسي، باحثة عن حجة مضادة لنفوري العفوي من هذا الرفيق، حجة تُسكت هذا النفور، وتدعني أقوم بواجبي السياسي بمتعة وهمّة.
أخيراً ينتهي الكلام، ويفتتح الرفيق نبيل دورتنا العسكرية، و يأمرنا، بصوت عالٍ، حاد وخافت، بالركض بمحاذاة أسوار المخيم بعدد لا يحدده من المرات، ونحن نصرخ، كما في التظاهرات «تشي! تشي! غيفارا! هو! هو! هو شي منه!». فنركض ثم نركض، ونصرخ ونصرخ… حتى يوقفنا الرفيق نبيل بصرخة هي الأعلى، ويأخذ وضعية معينة: بطنه على الأرض، أكواع يداه رجليه يحركان جسمه ورأسه منخفض، كأنه يمر تحت صف من الأشواك الحديدية، مشيراً بذلك إلى الزحف، التدريب على المشي والجسم على الأرض، بوجه التراب. يضعنا في صفين متوازيين، يبدآن في أول حائط المعسكر، ويأمرنا بأن نواصل زحفاً نحو الحائط المقابل، بمسافة خمسين متراً. هكذا ذهاباً وإياباً من السور إلى الآخر، من دون هوادة. لننتقل إلى التمرين الثالث، وهو التسلق على الحبال. نقف صفا طويلا، بانتظار دور كل رفيق يتسلق، ينزلق، يتكمش، يشدّ على الحبل، تعرق يداه، يداريها، ثم يعيد المحاولة مرة ثانية وثالثة، حتى تقطّع الأنفاس. الشمس الآن فوق رؤوسنا مباشرة، وربما يلاحظ الرفيق بأن جهدنا الجسدي في سبيل القضية يحتاج إلى راحة، فيقرر أن ندخل إلى الغرفة الكبيرة، ونجلس على الأرض في الشكل الدائري نفسه، يسلم لكل واحد منا قطعة رشاش كلاشينكوف، ويبدأ الدرس بالبند الأسهل من بنود التدريب العسكري: تفكيك الرشاش، تنظيفه بقطعة قماش من الزيت وإعادة تركيبه من جديد. مع أنه تدريب مسلٍ، لكننا لا نقدر على الضحك ولا حتى الإبتسام. الرفيق نبيل فوق رأسنا، يشرح لنا اشياء عن كل قطعة من الرشاش، وجهه رقيب على انفعالاتنا. في مرحلة متقدمة من التدريب سوف نتعلم على تصويب السلاح، بالتمرين على إطلاق النار على قطعة كارتون سميكة مثبّتة على عامود، تبعد عشرين أو ثلاثين متراً.
ولكن الآن، في هذه اللحظة الأولى من تعرفي على السلاح، وبعدما يصفو عقلي من جهد التسلق والزحف، انتبه إلى أن الرفيق نبيل لم يفرق بين الرفاق والرفيقات: عندما تتعب الواحدة منا، قبل غيرها من الرفاق الشباب، لا يعيرها اهتماماً، يتابع التعليمات وكأن لهثاُ، أو أنيناً، لم يصدر؛ وإذا حاولت الاحتجاج بأن التسلّق أو الزحف صعب على بنيانها الرقيق، يزداد خشونة، ويردّ بالتأكيد على الأمر، من دون أخذ أو ردّ. حتى انه يؤنب أحد الرفاق بعبارات قاسية، لأنه عبر عن إعجابه بخفة الرفيقة زلفا، وبتسلقها السريع للحبل، قائلا:»آه يا رفيقة! أنتِ أشطر من كل الرفاق! أنا شخصيا لا استطيع بلوغ نهاية هذا الحبل!».
أحاول أن أجد طبيعياً التدريب مختلطاً بيننا وبين الرفاق. أن تقوم الرفيقة بالتدريبات نفسها التي يخضع لها الرفاق؛ كما في الاجتماعات والتظاهرات والمهرجانات وجمع التبرعات… بنظري، لا تتحقق المساواة بين الجنسين إلا إذا تمكنت المرأة من القيام بما كان حكراً على الرجال منذ آلاف السنين. ولكثرة استعجالي، أكره انني لم أولد رجلا. أكره أنوثتي، سبب قلة حريتي، أحلم طوال الوقت بأنني رجل: لو كنت رجلاً… لكنت طلعت ونزلت، وقمت بكذا وكيت… جسمي يؤلمني من التدريب، ولكنني أرى في هذا الألم حق. وانني مستعدة نفسياً له. وانا على كل حال «أخت الرجال»، كما يقولون عني في المنظمة، «قلعة حصينة»، وهذه ألقاب تفرحني، وتدفعني الى المزيد. أقص شعري مثلهم، ألبس البنطلون، أدخن السجائر مثلهم، اشتم، أصرخ، أواجه، أصارع، لا شيء يثنيني عن طموحي بالتشبه بهم. تفاجئني قساوة التدريب العسكري، يوجعني جسمي منه، ولكنني سعيدة بأنني قمت بما قام به الرفاق، فأبتلع عنف التدريب برحابة صدر. المساواة عندي لها ثمن، ليست هبة هابطة من السماء، علينا، نحن النساء، أن نبذل الكثير من أجل تحقيقها، وأن نفرح بالفرص التي تتيحها. وما هو أغلى على قلبي، انني أحقق مساواتي مع الرجل وأنا في خدمة القضية. ماذا أريد أكثر من ذلك؟ من أن يتقدم الوقت، وتتقدم المساواة، وتكون مقترنة بحرية الشعب الفلسطيني واستعادته لأرضه وإقامتنا لنظام ثوري؟ لذلك فان قساوة الرفيق نبيل مع الرفيقات لا تخرج عن موضعها، أراها سليمة، صحيحة، تدخل في صميم خطنا التحرري العام. طبعا، سوف أفهم في وقت لاحق بأن نية الرفيق نبيل بعيدة كل البعد عن أحلامي الساذجة. هو عسكري، أي أنه لا يميز بين الأشكال والألوان، ولا الأنواع. هو عنده خط مستقيم مع نقاط عليه ملئها ضمن برنامج متكامل. وكل ما يكون خارجا عن هذا الخط، ناتئاً بتميزه، يقصّه بالشفرة الحادة، يرميه جانياً، وكأنه لم ينوجد. هكذا هو الرفيق نبيل، محطّم أوهامي، بعد حين. وعندما يستشهد، بعد خمس سنوات على تلك الحصة العسكرية الأولى، في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، في جبهة «الفنادق» التي دارت في الوسط التجاري، ضد ميليشيات اليمين الطائفي، ويكون بذلك أول شهداء منظمتنا، أشعر بالفرق بين موت كنا نناديه عن بعد في معسكرنا، وموت يحضر في ساحة قتال، نناديه عن قرب.
ولكن كل هذا يحصل في سنوات لاحقة؛ أنا الآن ما زلت في المعسكر، والعيادة الواقعة على جهته الجنوبية تحتاج إلى من يتطوع لمساعدة طبيبها المناوب. أنا وزلفا نستعد. بعد الجانب العسكري من النضال، ها نحن، ومن دون قرار أو تعليمات، نبادر للقيام بهذه المهمة النضالية، إذ يستفيد أهالي المخيم الفقراء من خدمات هذه العيادة المجانية. ندخل إليها بعد الإنتهاء من التدريب، برفقة الرفيق نبيل ليتم التعارف بين «الرفيقتين سهى وزلفا»، و»الرفيق الدكتور سهيل القادم من الأردن». لا أكثر ولا أقل؛ وطنين «الأردن» وحده يشي بأكثر مما تحتاجه حماستنا. والمهمتان لا نجد فيهما الكثير من الصعوبة: أنا انظم دخول المرضى وأسجل الدور، والرفيقة زلفا، في ما يشبه الغرفة الخلفية، يفصلنا عنها نصف حائط، تقرأ الوصفة الطبية وتسلم الدواء إلى المريض. هكذا طوال ما تبقى من النهار، في مهمة سوف تستغرق صيفيتنا كلها. الواقع إن الرفيق سهيل ليس بالشخص العادي. انه غارق في وسامة لها جاذبية غامضة: شعره الأبيض الغزير، تعبره خطوط سوداء متفرقة، وعيونه السوداء تبرق باللون الرمادي الذي يكسو رأسه مثل تاج يتلألأ بحجره الأسود النادر؛ ما يعطي لحزنه صفاءً واطمئناناً. هدوءه يشبه صوته، بعيد وقريب. يهمس، لا يتكلم، تصغي إليه، لا تسمعه. وخلف كلامه، أو أثناءه، تخرج الألفاظ كأنها حررت من كهف حبست فيه، صارخة بخفر، بانتباه من شظاياها، برحمة وحنو. شاب ساحر من الوهلة الأولى وحتى آخرها. بعد مناوبتين في العيادة، تطلب مني زلفا، بنوع من الخجل، أن نبدّل المهمات: هي تنظم دخول المرضى وأنا أسلم الدواء. لا أحتاج أن اسألها عن السبب، الكامن في عينيها: تريد أن تكون بالقرب من الرفيق سهيل. يبدو لي إن شيئاً ما، حركه هذا الشاب في قلب الرفيقة المحبّة للحب.