دولة بادية الشام تثأر لنفسها

استيلاء “داعش” على الموصل يشكل فصلاً جديداً من تاريخ المشرق العربي الحديث، لأن ما يجري أكبر بكثير من مجرد غزوة عسكرية. تاريخياً تقسمت بادية الشام (تمتد من الرقة في سورية وحتى الموصل في العراق) في أعقاب ظهور الدولة العربية الحديثة في المشرق العربي. وتحول فشل الدولتين -كل لأسبابه- في العقد الأخير إلى فراغ قوة هائل في البادية، تظهر بوادره مع نجاح “داعش” في السيطرة عليها بهذه السرعة وبغطاء من القبائل أو معظمها على الأقل. اختزال الموضوع في أيديولوجيا “داعش” فقط يسطحه تماماً، لأن ه…ناك أسباب اجتماعية كامنة وكانت ستتفجر أيضاً مع امتلاك تنظيم أخر بأيديولوجيا مختلفة لما تمتلكه “داعش” من راديكالية وسلاح. كما أن الصراع لا يمكن اختصاره في البعد الطائفي حصرا: “داعش” السنية في مواجهة المالكي الشيعي مع أن هذا البعد يلعب دوره في تأجيج الأوضاع، خصوصاً أن الحزام السني في وسط العراق يعاني مظالم منذ احتلال العراق عام 2003
وسبق لأمريكا أن استغلت مظلوميته لموازنة إيران فدعمت “صحوة العشائر” قبل أن تنفض يدها منها. ولا ننسى هنا أن تكريت مسقط رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين ترفع صوره الآن وتدعم “داعش” التي تراها عدواً لإيران، على قاعدة عدو عدوي صديقي حتى ولو كانت أيديولوجيا صدام بعثية و”داعش” تكفيرية!. وفي البعد الإقليمي للصراع فهناك مصالح كل من تركيا وإيران والسعودية في البادية، وكل من هذه المصالح يحتاج إلى تفصيل يطول شرحه وعوامل قوة وضعف وسيناريوهات للتحقق.
هناك بعد خامس نفطي، فالخصوصية الاجتماعية الكامنة في بادية الشام يضاف إليها النفط، الذي لم تتمكن قبائل البادية يوماً من وضع يدها عليه أصبح الآن تحت سيطرة “داعش” والقبائل المتحالفة معها أضف إلى ذلك الغنائم من الأسلحة الحديثة والثقيلة ومبلغ 400 مليون دولار من البنك المركزي في الموصل. وهناك بعد سادس كردي في الموضوع، لأن سيطرة “داعش” على البادية تشكل تهديداً لإقليم كردستان، ما سيدفع الإقليم إلى استنفار قواته والصدام مع “داعش” ما سيحرك موازين القوى ويهزها بعنف وذلك له آثاره على كامل التركيبة الكردية-العراقية والكردية-السورية. في كل الأحوال راعت الأنسة دارسي -موظفة الاستخبارات البريطانية التي رسمت حدود العراق على الورق قبل قيامه 1921- الاعتبارات السوسيولوجية أكثر بكثير مما التفت لها حكام العراق وسورية السابقين
. ولمن يريد أن يرى خيط مؤامرة في الموضوع، قد أساعده حين أخبره أن قبيلة “عنزة” العربية ذات التأثير الكبير في الموصل ولأن العائلة الحاكمة في قطر تنتمي لهذه القبيلة على العكس من العلائلات الحاكمة الأخرى في بلدان الخليج العربية. لكني أعود وأقول أن الموضوع أكبر من مجرد مؤامرة، وإنما بالأساس فراغ قوة ناجم عن سياسات مفلسة لحكام العراق والحرب الأهلية في سورية، والحروب المشتعلة بالوكالة بين إيران والسعودية في المشرق العربي
. يسير هذا الفراغ من القوة يدا بيد مع مظالم اجتماعية (عدم ادماج بادية الشام بشكل فعلي وعادل في هياكل ومؤسسات الدولتين العراقية والسورية)، فتكون النتيجة أن يفلح تنظيم ديني راديكالي في إحراز انتصارات عسكرية ليظهر إلى العلن الآن ما تجنبت الأنسة دارسي ظهوره قبل تسعين سنة: “دولة بادية الشام”. تصدر صورة مقاتلي “داعش” بأعلامهم السوداء ولحاهم الكثيفة المشهد الحالي يخفي في العمق حقيقة أن “بادية الشام” تثأر لنفسها بهذه الطريقة المفاجئة والمفجعة.

السابق
هل يمكننا مشاهدة المونديال عبر قنوات عالمية كالـTF1؟
التالي
الناتو: أستبعد دورا للحلف في العراق وأتابع الموقف عن كثب