في أوهام المؤتمر التأسيسي

لبنان سبق له أن تأسس، وما من أحد يملك القدرة على إعادة تأسيسه من جديد. وليس الشغور الرئاسي، على خطورته، هو الذي يسمح للبعض بطرح اعادة التأسيس استناداً الى اعتقاده أن النظام قد فشل وإن الصيغة قد تلاشت. فما رُسم قد رُسم. فالكيان بنظامه وصيغته، أقوى من كل المطالبات بإعادة النظر في الأساس.
هنالك من تمرد على الدستور. هذا صحيح. لكن المسؤول عن ذلك هو المتمرد. فلا يعاقب الدستور لأنه امتهن، بل الذي استطاع اخضاعه لمصالحه واستسهال جعله تحت الخلاف السياسي أو تحت التجاذبات على أنواعها، وليس فوقها. أكانت هذه التجاذبات داخلية أم انعكاساً لموازين القوى الخارجية. فالدول التي تحترم نظامها الدستوري تنزل الخلافات كلها الى ما دون القانون الأسمى، الذي وضع لكي يرعى مختلف الأحوال العامة في البلاد. وقد بلغ التزام لبنان لدستوره حد جعله يعلو على أصوات المدافع في سنوات الحروب، فانتخب الرئيس الياس سركيس عام 1976 وسط معارك حقيقية، أمام المقر الموقت لمجلس النواب، وكذلك الرئيسان بشير وأمين الجميّل عام 1982، ثم الرئيسان رينيه معوض والياس الهراوي. وجميعهم أدّوا اليمين الدستورية في غير المقر الرسمي لمجلس النواب.

 
كان هنالك اعتقاد راسخ لدى القادة اللبنانيين، على اختلافهم وخلافاتهم، ولدى جميع الذين تعاطوا الشأن اللبناني يومذاك، وخصوصاً لدى الموفدين الخارجيين، أن انقطاع الشرعية الدستورية هو أخطر من المعارك والحواجز التي قسمت العاصمة والمناطق. فأصر الجميع على احترام المواعيد الدستورية، ليس من باب الشعور الوطني أو ممارسة تداول السلطة، بل لأن حبل الشرعية الدستورية في لبنان، إن انقطع، يفتح أبواب المخاطر التي قد لا تقف عند حدود الكيان. كان هنالك اقتناع عميق بتلك المعادلة. فالدستور بقي مظلة المتخاصمين. اختلفوا على كل شيء إلا على سمو نصوصه. وجاء الإنقاذ عبره في النتيجة عام 1989.
التعديلات الدستورية التي حصلت، وتلك التي يطالب بها البعض – وقد أورد الرئيس ميشال سليمان بعضاً منها في خطابه الوداعي – هي شيء آخر. الصيغة التي قام عليها لبنان ورضي بها الجميع في الداخل وفي الخارج لا تسمح إطلاقاً بإعادة النظر فيها، لأن مبررات الوجود لا تبقى هي ذاتها. فهل هذا المطلوب؟
فلبنان الذي تأسس منذ ما يقرب من مئة سنة، ولد كيانه ولادة صعبة. وهذا ربما يجهله الكثيرون. لأن القضية لم تكن فقط إعادة الاراضي التي لم تضم الى المتصرفية في حدودها المعترف بها دولياً آنذاك. لم تكن القضية قضية أراض ومساحات جغرافية مستعادة، على أهميتها وشرعيتها التاريخية والحيوية، بل كانت تتجاوز المساحة الجغرافية الى ترجمة لقبول الطوائف المتعددة بالعيش معاً. ذلك كان هو التأسيس الحقيقي.

 
حصل القبول تدريجاً بعد ذلك. وحلّ الأمن تدريجاً أيضاً ً منذ مطلع الثلاثينات، فبدأ لبنان ينعم بالاستقرار نتيجة جهود السلطة المنتدبة في إرساء الأمن، ثم أُسس العمل الإداري والقضائي الذي كان للبنان تراث له فيه، من موروثات الحكم العثماني العريق في التجربة الإدارية، ومن واقع الحكم المحلي اللبناني في أنظمة الامارة والمتصرفية بعد ذلك.
ولعل خطاب القومندان شارل ديغول في بيروت في 3 تموز 1931 هو من المحطات التأسيسية للبنان، قبل ولادة الميثاق الوطني عام 1943، وبداية الرحلة الاستقلالية الوطنية، حين قال: “ليست هنالك من دولة من دون تضحيات، فمن هذه التضحيات بالذات خرج لبنان”.
لبنان تأسس مع الوقت. رضي الجميع بهذا اللبنان الذي وُضع دستوره ثم ميثاقه على صورة مجتمعه، في نظام حر يرعى التوازنات ويحترمها احتراماً دقيقاً.
وعلى مقربة من هذه المئوية الأولى لذلك النشوء، لم تكن المراحل كلها مضيئة. لا في الخضات الأمنية، ولا في سياسات الجوار، والسورية منها بشكل خاص، لأن سوريا أتعبت لبنان كثيراً في أي حال من أحوال أنظمتها، وصولاً الى الوصاية بكل ما انطوت عليه من أطماع ومخططات ومساوئ. ولا في العداء الإسرائيلي الذي استجد بعد عملية النشوء، ولا في قضية اللاجئين الفلسطينيين، ولا في التدخلات الخارجية، ولا في اخطاء الحكام وخطاياهم.
فما تم تأسيسه على طول قرن من الزمن لا يسمح بالمطالبة بإعادة النظر فيه. فالصيغة اللبنانية لا تتقلب بتقلب موازين قوى جديدة أكانت داخلية أم خارجية.
فطرح المؤتمر التأسيسي ليس متعذراً لأن للبنان ضمانات خارجية تحميه. وليس أيضاً لأن المنطقة تغلي بالنزاعات وتطرح مستقبل وحدة كل من العراق وسوريا، بل لأن الكيان اللبناني، بخلاف تكوين كل من سوريا والعراق، لا يخضع للاعتبار الجغرافي والتوزيع الطائفي فيها. فهو كيان انبثق من ذاته، ومن تطوره التاريخي بعكس ما خيل للبعض من أنه مصطنع. لعل بعض الكيانات الأخرى في المنطقة هي مصطنعة بدليل أنها تتفجر حالياً جغرافياً وبشرياً. لأن الدمج البشري فيها حصل قسراً، وغطتها الأنظمة المستبدة مدى عقود، فعاد ليطفو على السطح طارحاً هويته العرقية أو الطائفية من جديد.

 
لبنان عانى الصراعات ولم يتفجر. لم يفرز طائفياً ومناطقيا ً على رغم ممارسات الحروب والهجرات الداخلية والخارجية. إنه كيان انبثق نتيجة تطوره الطبيعي، من توازناته التي لا يمكن أن تتغير ويبقى الكيان. صراعات المذاهب في المنطقة، والتي لم تصل الى لبنان، الى أين يمكن أن تؤدي إذا ما وصلت. أي حدود لهذه الطائفة أو تلك، فالكيان أصغر من أن يفرز مناطقياً، فضلاً عن استمرار الاختلاط في معظم المناطق. فلقد واجه لبنان أشرس الحروب وتحول ساحة حروب وارتهن لصراعات الآخرين، لكنه بقي موحداً على رغم ما طرح من مشاريع تقسيم وكانتونات في السنوات الأولى للحروب خصوصاً، وهو ما نسيه البعض. وبقيت الصيغة ذاتها ونظامه ذاته. لأنه ما من أحد قال بالانفصال عن الآخر. وذلك بخلاف العراق وسوريا اللذين يعلن بعض مكوناتهما أنه لا يريد الاستمرار في الشركة مع الآخر.
فالوضع في لبنان شأنه مختلف. ليست وحدة الأرض والشعب هي المطروحة، ولا توجهات النظام الديموقراطي الحر، لأن الجميع وجدوا مصلحتهم فيه. ولا هي الهوية والانتماء، بل لعل المطروح من خلال ما تم تداوله، بصورة مباشرة وغير مباشرة، هو دعوة الى إعادة النظر في مرتكزات الصيغة وترجماتها المختلفة. فهل في المستطاع، على ضوء التجربة التاريخية الطويلة، والتطورات المختلفة التي احترمت التوازنات كأساس للوجود، فضلاً عن النموذج الحي الذي مثله لبنان، إعادة توزيع الحصص في النظام المنبثق من المجتمع المختلط؟ فهل هذا ممكن؟ وبإسم أي اعتبار يطرح؟ ألـِعلة في الأساس يعيدها البعض الى ظروف التكوين، أم الى تغيّر موازين القوى إقليمياً أو داخلياً؟
واستمر الموضوع متداولاً في نطاق محدود الى أن ظهرت مواقف واضحة في شأنه في الآونة الأخيرة، إن في مناسبة انعقاد جلسات الحوار التي حاول البعض ادخال مواضيع جديدة فيها لا يحتملها المنطق الذي من أجله اقيمت الجلسات الأولى، مثل الدعوة الى معالجة الأزمة الوزارية على طاولة الحوار، وسواها من الأزمات الطارئة، وكانت سبقتها طروحات من نوع “عقد اجتماعي جديد” وإلغاء الطائفية السياسية، وتعديل الطائف وما إليها. فاختصر البعض كل ذلك بالمطالبة بمؤتمر تأسيسي، وخصوصاً بعد أزمة الفراغ الدستوري المتمثل بعدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ولكن بصرف النظر عن هذه المطالبات، وعن أي أزمة طارئة أم لا، هل أن إعادة النظر في الأمس يمكن أن تطرح والى أين ستقود؟
فإذا كان لبنان تجربة بقدر ما هو مساحة، أو ربما قبل أن يكون مساحة – ولبنان الكبير هو تطوير للبنان الذي سبقه – وإذا كان الجميع يعترفون بأهمية هذه التجربة، فأي صيغة صالحة تحل محلها؟ فإذا كان الوضع السوري المجاور مباشرة للبنان يشهد تفكك التكوين التقليدي لسوريا، ونزوح الاقليات المسيحية خصوصاً الى ديار الانتشار، بتسهيلات واضحة جداً من سلطات بعض الدول مثل أوستراليا وكندا، لتصبح بعض المناطق والمدن السورية شبه خالية من الوجود المسيحي العريق فيها، فهل أن طرح إعادة التأسيس في لبنان يشكل ضمانة للمسيحيين، لمسيحيي الشرق، وكيف؟ فأي محاصصة جديدة هي التي ستضمن استمرار تلك الصيغة النموذجية للعالم كله. ولماذا؟ وأين هي مناصفة الطائف التي وضعت ليس فقط لتطمين العنصر المسيحي الذي عانى بشكل خاص وطأة الهجرة، بل أيضا ً وبشكل خاص في سبيل استمرار القاعدة إياها التي بررت النشوء والنجاح الممكن للتجربة ولتوازناتها الدقيقة، على رغم مختلف المطبات التي اصابتها.

 
فإما أن في نظام الحكم اللبناني مواضع خلل، وهذا موضوع يمكن أن يطرح لتحديد تلك المواضع، وقد أورد الرئيس ميشال سليمان بعضاً منها من وجهة نظره، وإما أن التوازن الذي ارتكز عليه هذا النظام لم يعد مرغوباً فيه لدى البعض، وهذا موضوع مختلف تماماً.
ولكن إذا كان النظام قد فشل في رأي البعض، فهل أن المجتمع أيضاً فاشل؟ أين اللبنانيون في كل ذلك؟ فهل أن لبنان هو مجرد نظام سياسي ومحاصصة للطوائف، أم أنه تجربة تجدر المحافظة عليها وقد دلـّتْ أنه ليس هنالك من بديل منها؟

السابق
كلمات انكليزية تدخل قاموس اللغة الفرنسية!
التالي
’الموبايل’ في الظلام قد يفقدك البصر