الأساطير المؤسِّسة للنظام المصري الجديد

لا نستطيع أن نتقدم نحو المستقبل الذي ننشده ما لم نتخلص من بعض الأساطير التي نسجناها حول النظام المصري الجديد.

(1)

أمهد بثلاث ملاحظات أزعم أنها تساعدنا في استيعاب ما أدعو إليه هي:
÷ إن العرب جميعاً ونحن منهم من هواة تضخيم الذات. وهو ما عبّر عنه الشعراء منذ الجاهلية. حتى ان عمرو بن كلثوم قال في بيت شهير له إنه: «إذا بلغ الفطام لنا صبي / تَخُرُّ له الجبابر ساجدينا». هكذا بقدرة قادر. وقد سار على دربه كثيرون، منهم أبو فراس الحمداني في العصر العباسي الذي قال: «ونحن قوم لا توسط بيننا / لنا الصدر دون العالمين أو القبر. أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا/ وأكرم من فوق التراب ولا فخرُ». ولو أوردت ما ذكره في ذلك المقام المتنبي وأبو تمام والبحتري وابن الرومي لاحتجت إلى أضعاف المساحة المتاحة.
÷ إن حالة النفخ في الذات التي تنطلق من التمني وليس من الواقع لها تأصيلها الأكاديمي، فعلماء النفس يتحدثون عن حالة الذين يعيشون في الوهم، ويصفون من ينفصل عن واقعه ويحاول العيش في ما يتمناه بأنه ضحية ما يسمونه بالتفكير الآمل، ويعتبرون من يصر على التعلق بالوهم ويرفض ملامسة الواقع بأنه ضحية التضليل الآمل. والاثنان يجسدان درجات متفاوتة من محاولات الانفصال عن الواقع.
÷ إن باحثي العلوم السياسية يفرقون بين التصويت في الانتخابات وبين استطلاعات الرأي العام. ولا يعترفون بنتائج الانتخابات ضمن وسائل استطلاع الرأي، لأن التصويت في الانتخابات تتعدد أسبابه. إذ كما أن البعض يصوت تأييداً لمرشح ما واقتناعاً به، فإن آخرين قد يصوتون لمصلحة طرف احتجاجاً على طرف آخر (الحكومة مثلا) وقد يصوتون ليس اقتناعاً بمن صوتوا له ولكن لإسقاط مرشح آخر. وقد يكون التصويت له أسبابه العائلية أو الجهوية، كما قد يكون الدافع اليه هو الخوف من الغرامة مثلا. ناهيك عن أن أعداداً غير قليلة يصوتون لشخص ليس اقتناعاً به، وإنما استجابة لنداء وضغوط الحكومة. وذلك كله مختلف عن استطلاع الرأي الذي يتوجه الى كل واحد في العينة ويسأله عن حقيقة موقفه إزاء الاشخاص والظواهر المختلفة.

(2)

ما سبق يساعدنا في الإشارة إلى الثغرات التي تخللت قراءتنا لنتائج الانتخابات الرئاسية الاخيرة في مصر (26 و27 و28 أيار). ذلك أن بعضنا تعامل مع النتائج بحسبانها قياسات للرأي العام. ومن ثم استخدمها في القفز فوق الواقع وتجاهل تضاريسه. وتلك مسألة خطرة للغاية. ذلك أنه حين يقال إن أكثر من 90 في المئة من المصريين أيدوا المشير السيسي، فإن ذلك لا يعد خطأ علمياً وسياسياً فحسب، ولكنه يعني تجاهل كل الشقوق والتمايزات والجراح التي يحفل بها الواقع المصري. ناهيك عن أنه سَوَّغ للبعض أن يقولوا إن معارضة السيسي في هذه الحالة تعد عملا غير وطني. بكلام آخر، فإنه حين يبنى التحليل المعتمد على أن النتائج عبّرت عن الاكتساح والاصطفاف والإجماع، فإننا نصبح بصدد حالة من الإنكار تبعث على القلق الشديد.
إزاء ذلك فَلَعلِّي لا أبالغ إذا قلت إننا بصدد اصطناع فكرة الزعيم الذي يتعلق به أمل الأمة، والمخلِّص القادم من رحمها ليعيد إليها الرفاه بعد الفقر والعدل بعد الجور، ويخرجها من ظلمة الإحباط واليأس الى نور المستقبل المشرق. وإذا صح هذا التحليل فإنه ينبغي أن يخيفنا لسبب جوهري هو أن تلك مقدمات تمهد للحاكم المستبد والفرعون الجديد.
ليس كل من جلس على مقعد الرئاسة زعيماً، حيث الزعامة يصنعها إنجاز الرئيس لا منصبه. ومن الخطورة بمكان أن يعلق الأمل على فرد وأن يُعدّ مخلِّصا لمجرد انه حظي بالتأييد في لحظة تاريخية معينة. فذلك يظلمه بقدر ما انه يظلم المجتمع اذ يهمشه ويلغيه. وفي الظروف التي تعيشها مصر بملايينها التسعين فإن حملها أثقل بكثير من طاقة أي فرد، مهما بلغت قدرته، ولن يحملها حقاً سوى مؤسسات قوية تتحرك في بيئة حرة وفي ضوء إستراتيجية نهضوية واضحة المعالم.
لو اننا تخلينا عن أسطورة المخلِّص الذي وصفه أحدهم بأنه رسول بعثه الله لينقذ مصر، واعترفنا بأن نجاحه كان نسبياً ولم يتحقق باكتساح او ضربة قاضية لكان ذلك أصدق وأعدل. ليس فقط لأنها الحقيقة التي ينكرها ضحايا «التضليل الآمل» ولكن أيضاً لأن ذلك يؤكد له أن ثمة قطاعاً في المجتمع ليس مستعداً لأن يوقع له على بياض.

(3)

في 21 أيار الماضي أعلن مركز «بيو» الأميركي للدراسات نتائج استطلاع للرأي أجراه في مصر تضمن مجموعة من النتائج المهمة الجديرة بالملاحظة والانتباه. وربما لأهمية وحساسية تلك النتائج فإن الصحف المصرية تجاهلتها باستثناء جريدة «الشروق» التي أبرزتها على صفحتها الاولى في 24/5 إذ نشرت أغلب وليس كل نتائجه. ولا تفسير لتجاهل الإعلام المصري للنتائج سوى انها جاءت على خلاف ما تروج له الأساطير الرائجة او التفكير والتضليل الآمل. أبرز تلك النتائج جاءت على النحو التالي:
ـ مؤيدو المشير عبدالفتاح السيسي من بين العينة المختارة نسبتهم 54 في المئة و45 في المئة يعارضونه. وهذه المعلومة لم ينشرها الخبر الذي نشرته جريدة «الشروق» على صفحتها الأولى.
ـ 54 في المئة من المصريين يتطلعون إلى إقامة حكومة مستقرة (لاحظ انها ذات النسبة التي أيدت المشير السيسي) في حين أن 44 في المئة يريدونها حكومة ديموقراطية.
ـ 72 في المئة من المصريين غير راضين عن الاتجاه الذي تسير فيه البلاد. وهو نفس مستوى عدم الرضى الذي عبر عنه المصريون قبل ثورة «25 يناير» 2011.
ـ 39 في المئة فقط من المصريين ينظرون الى المستقبل بتفاؤل في حين عبّر 34 في المئة عن تشاؤمهم.
ـ 54 في المئة أيدوا تحرك الجيش لعزل الدكتور محمد مرسي في الثالث من تموز الماضي بينما عارضه 43 في المئة إلا أن النظرة الإيجابية للرئيس السابق تراجعت من 53 في المئة قبل عزله إلى 42 في المئة في الوقت الراهن.
ـ خلال العام الأخير انخفضت شعبية «الإخوان» من 63 في المئة إلى 38 في المئة.
التراجعات ليست مقصورة على مؤيدي الإخوان وحدهم، ولكن تأييد العسكر انخفض من 73 في المئة في العام الماضي الى 56 في المئة في العام الحالي بنسبة تراجع 17 في المئة. وسمعة القضاء المصري تراجعت أيضاً بذات النسبة اذ انخفضت من 41 في المئة الى 58 في المئة.
ـ ثمة تراجع أيضاً في نسبة التأييد الشعبي للديموقراطية. حيث يذكر الاستقصاء أن نسبة المصريين الذين يؤمنون بالديموقراطية كأفضل شكل للحكومة أصبحت الآن 59 في المئة، في حين أنها كانت 66 في المئة في العام الماضي و71 في المئة في العام 2011.

(4)

إن نتائج الاستطلاع الذي نحن بصدده تمثل ارتطاماً قوياً بواقع الحال على الأرض المصرية. هي ليست قرآنا بطبيعة الحال، ولكنها قابلة للنقض والرد، وللأسف فإن البيئة السياسية في مصر لا توفر مناخاً لإجراء استطلاع يتعارض مع الرياح السائدة. لكني أتمنى أن نفكر في الأمر ملياً قبل أن نسارع الى الإنكار وإطلاق الألسنة الحداد التي تتهم المركز والعاملين فيه بالتواطؤ والاختراق والتمويل التركي والقطري. إلى غير ذلك مما اعتدنا ان نرمي به كل من خالفنا أو لم يعجبنا.
للأسف فإن المناخ السياسي السائد لا يحتمل حتى مناقشة النتائج التي توصل اليها مركز «بيو» للدراسات الذي يتمتع بسمعة عالمية متميزة في كفاءته وصدقيته. وهي المناقشة التي تضعنا على بدايات ملامسة الأرض والتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما نتمناه أو نصطنعه ونتخيله.
إن النتائج التي أشار اليها الاستطلاع بخصوص شعبية المشير السيسي تستوقفنا. ويفاجئنا ما تعلق منها بـ«الإخوان»، الأمر الذي يدعونا الى التفكير بشكل جاد في جدوى وصواب دعوة البعض إلى شطبهم من الحياة السياسية وإخراجهم من التاريخ. إن كثيرين يشغلهم هاجس السلطة و«الإخوان». ويتجاهلون أن بين الطرفين كتلة جماهيرية هائلة ليست طرفاً في الصراع، وليست مصطفة الى جانب السلطة أو «الإخوان». والبطل الحقيقي هو من يستعلي فوق صراعات ومرارات الأجنحة. ويعمل من اجل توفير العيش الكريم لهؤلاء الأخيرين، الذين ما قامت الثورة إلا لأجلهم.

السابق
جان قهوجي مرشّح حزب الله الحقيقي؟
التالي
الانتخابات السورية مهزلة ومزيفة وخيانة للسوريين الذين قتلوا