الصين.. لصوت أقوى في القرارات الدولية

«بعض الأجانب ليس لهم همّ آخر في الحياة سوى انتقاد الصين، فالصين أولا لا تصدّر الثورة، وهي لا تصدر أيضا الفقر والجوع، وهي في الأخير لا تسبب لكم صداعاً، ألا يكفيكم هذا كله؟».
بهذه الكلمات يوصّف الرئيس الصيني سياسة حكومته الدولية في إشارة واضحة الى السلوك التدخلي للحكومات الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة. يعتقد الكثير من الباحثين والمحللين السياسيين أن الظروف الدولية تتغيّر على نحو إيجابي، وأن الصين ليست بعيدة عن التطلعات الروسية في تقاسم المسؤوليات الدولية، وسلوكها اليوم لم يعد يشبه سياسات الولايات المتحدة «الانعزالية» التي رسّخها الرئيس الأميركي جيمس مونرو، أو ما سمّي لاحقاً بـ«مبدأ مونرو» 1823م.

التاريخ

الصين هي من بين أقدم وأغنى الحضارات في العالم، وهي تمتد لأكثر من 4000 سنة. لقد ساهم التاريخ الصيني القديم في تقدم البشرية إلى حد كبير. كانت ثقافة التنين حاضراً خلال فترات التاريخ الصيني وبقيت متجذرة بعمق في الثقافة الصينية، لدرجة أن الشعب الصيني غالباً ما يعتبرون أنفسهم «أحفاد التنين». يختلف التنين الصيني عن نظرائه في اليابان وكوريا، ويبدو كأنه مزيج من العديد من الحيوانات، بما في ذلك الزواحف والثعابين والتمساح، والسحلية. إنه رمز للسلطة، للقوة والنجاح. لذلك، استخدم الأباطرة الصينيون «التنين» عبر التاريخ كرمز لسلطتهم ولقوة الإمبراطورية.
تعاقبت على الامبراطورية الصينية عائلات كثيرة، بدءاً من أسرة شيا Xia (2070-1600 ق.م) والأسطورة يو Yu العظيم، وآخرها سلالة أسرة كينغ Qing (1644ـ 1912م). كانت نقطة التحول في التاريخ الصيني مع موت الامبراطورة دواجر Dowager والامبراطور في العام 1908، ومجيء المتشدد مانتشو إلى السلطة واضطهاد الإصلاحيين وتهميش النخب المحلية على حد سواء، ما أدى الى اندلاع الانتفاضات المحلية في 11 تشرين الأول 1911 وهي التي أدت إلى الثورة الديموقراطية الوطنية التي أطاحت أسرة مانتشو في العام 1912 وأنشأت جمهورية الصين (1912-1949). وقد شهد العام 1950 نهاية الحرب الاهلية الصينية وإنشاء جمهورية الصين الشعبية وتايوان.
الصراعات والاضطرابات الجارية حالياً في شمال أفريقيا، مروراً بالشرق الأوسط وعلى طول الطريق إلى أوكرانيا، دفعت العديد من الخبراء الاستراتيجيين الى التساؤل: هل التنين الصيني قادر على استعادة قوته المهيمنة؟ وهل تبحث الصين عن التوسع الإمبراطوري؟ لا يمكن للمرء تجاهل الطموحات المتنامية للصين والنفوذ المتزايد في جميع أنحاء العالم. ولكن ما الذي يجعل الصين مختلفة؟
الصين، كمرحلة أولى، لديها رغبة قوية في إعادة تنظيم النظام السياسي الدولي الذي تحتكره الولايات المتحدة وعدد قليل من الدول الغربية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. ولكن ما هي الأدوات التي تمتلكها الصين لتحقيق هذا التغيير؟

الاقتصاد

شرعت الصين في إصلاحات اقتصادية في العام 1978 وتحول اقتصادها من المخطط مركزياً إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وشهدت تنمية اقتصادية واجتماعية سريعة. ساعدت هذه الإصلاحات على تجاوز اليابان لتصبح الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر دولة مصدرة مع مليارات الدولارات من الاستثمارات في الخارج. على سبيل المثال، يقول تقرير جديد صادر عن مجموعة الروديوم مقرها نيويورك، إن الشركات الصينية في فورة شراء في أميركا الشمالية، ووصلت قيمة الاستثمارات في الولايات المتحدة الى رقم قياسي في العام 2013. مؤخراً، باع محرك البحث العملاق (Google) شركة Motorola Mobility الى شركة Lenovo، ما أعطى الشركة الصينية حضورا قويا في أسواق الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يفسّره بعض المراقبين الأميركيين بتغلغل التنين الصيني الى الولايات المتحدة من بوابة الاقتصاد.
المثير للاهتمام أكثر، اقتراح الرئيس الصيني مؤخراً إنشاء بنك جديد لتنمية البنية التحتية الآسيوية التي من شأنها أن تساعد البلدان الآسيوية في الابتعاد عن بنك التنمية الآسيوي الذي يهيمن عليه كل من الولايات المتحدة واليابان. علاوة على ذلك، اقترحت الصين الى جانب قادة «دول البريكس» – البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا – تأسيس بنك جديد للتنمية الدولية اسمه بنك بريكس للتنمية (BDB)، بميزانية أولية قدرها 100 مليار دولار، على أمل منافسة المقرضين الدوليين، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (IMF). سيقدم هذا البنك المنح والقروض للدول النامية لتحسين تمويل وتطوير البنية التحتية، ولكن مع شروط أفضل وفوائد أقل مقارنة مع صندوق النقد والبنك الدولييْن.
دعمت الصين الدول المتعثرة مثل اليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا عن طريق شراء السندات. وعندما سُئل المتحدث باسم السفارة الصينية لدى الاتحاد الأوروبي وانغ شينينغ، قال إن حكومته «تريد أن ترى منطقة اليورو في حالة جيدة، ونحن مستعدون لتقديم المساعدة في أشكال مختلفة»، من الواضح حرص الصين للحفاظ على حيوية الأسواق الأوروبية، لأن نسبة التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي هي أكثر من مليار يورو كل يوم، وتبادل تجاري في السلع قدره 433,6 مليار يورو في العام 2012، ما جعل الصين الشريك التجاري الثاني للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة. هذه السياسات تؤشر الى تزايد الثقة في قدرة الصين على استخدام نفوذها الاقتصادي لرسم سياساتها الخارجية في آسيا والقارة الأوروبية والتغلغل الى الداخل الاميركي عبر مجموعة من الصفقات الاقتصادية الضخمة.

القوة العسكرية

قدرات الصين العسكرية هي في ارتفاع. صنّعت الصين بنجاح أول حاملة طائرات (لياونينغ) بعد سلسلة من التجارب خلال العقدين السابقين. وبهذا الشكل يخطط الأدميرالات في الصين الى تطوير كامل للبحرية لتجعلها قادرة على الدفاع عن المصالح الاقتصادية المتنامية، فضلاً عن الأراضي المتنازع عليها في جنوب وشرق بحر الصين. من الواضح أن الصين تواصل توسيع الفجوة بين إنفاقها العسكري وإنفاق جيرانها في جميع أنحاء آسيا من جهة أخرى. في الوقت الذي تتقلص فيه ميزانيات الدفاع في «البنتاغون» وفي كثير من دول حلف شمال الاطلسي، فإن «جيش التحرير الشعبي الصيني» يشهد زيادة في التمويل العسكري. ووفقاً لتقرير صادر عن شركة IHS Jane للاستشارات العسكرية، فإن الصين ستنفق 148 مليار دولار على آلتها العسكرية في العام 2014، مقارنة بـ139 مليار دولار في 2013. على الرغم من أن الولايات المتحدة تنفق أكثر بكثير، أي 574,9 مليار دولار هذا العام، إلا أن ميزانيتها في انخفاض مقارنة مع 664,3 مليار دولار في العام 2012. وبحلول العام المقبل سوف تنفق الصين على الدفاع أكثر من بريطانيا وألمانيا وفرنسا مجتمعة، وبحلول العام 2024، سوف تنفق أكثر من كل من أوروبا الغربية، وفقا لشركة IHS.
أشار خبير في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) الى أن «الصين تنفق الآن نحو ثلاثة أضعاف ما تنفقه الهند على الدفاع، وأكثر من الدول المجاورة، اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام مجتمعة». وأضاف المعهد أن تنامي القوة العسكرية للصين تُجبر جيرانها على زيادة الإنفاق على الدفاع. وأكّد خبراء المعهد أنه حتى لو تساوى الإنفاق العسكري لبكين مع واشنطن، فإنها بحاجة الى عدة عقود لترجمة هذه القدرات ومنافسة نفوذ الولايات المتحدة على الصعيد الدولي. وأضاف غيري راجيندران، باحث في شؤون الدفاع والاقتصاد، لو افترضنا محافظة الصين على معدلات النمو الاقتصادي الحالية؛ فإنها قد تكون قادرة على مجاراة إنفاق الولايات المتحدة في العام 2030.
شئنا أم أبينا، لا سبيل لاجتناب الصين. انها تزدهر اقتصادياً وعسكرياً وتلوح في الأفق فرص يمكن أن تغير السياسة الدولية. لقد أصبحت قوة الصين أكثر حزماً على الساحة العالمية، ففي الآونة الأخيرة، اعترضت بكين ثلاث مرات على قرارات مجلس الأمن الدولي التي اقترحتها الحكومات الغربية والخليجية ضد الحكومة السورية. كما أنها اتّخذت موقفاً مسانداً لروسيا في صراعها الديبلوماسي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في اوكرانيا.
الصين هي بالتأكيد أحد المنافسين الدوليين التي تستعرض عضلاتها ولكنها ليست مستعدة بعد للعب دور بدون تحالفات على شكل تكتلات دولية مثل «البريكس». على الرغم من أن الصين ترسل سفناً حربية إلى الخارج، إلا انها لا تزال محدودة، كدوريات مكافحة القرصنة. بالاضافة الى ذلك، معظم استثمارات الصين والتبادل التجاري هي مع الدول الغربية، ما يفرض عليها اتباع سياسة غير تصادمية في الوقت الراهن مع الولايات المتحدة والسعي نحو تعميق الدخل القومي واستثماره في الدفاع والتنمية الداخلية. لذلك، ليس من مصلحة الصين انهيار العملات الغربية مثل «اليورو» و«الدولار»، الأمر الذي سيؤثر حتماً على التبادل التجاري.
إن الصين تصرُّ في الظروف الراهنة على المحافظة على معظم عناصر النظام العالمي الحالي، بما في ذلك قيادة الولايات المتحدة. لكنها تريد أيضاً من الولايات المتحدة السماح للدول الأخرى، وتحديدا الصين، ليكون لها صوت أكبر في القرارات التي تؤثر على مستقبل النظام الدولي.
صعود الصين وتأثيره على العالم لن يكون ببساطة صعوداً اقتصادياً؛ بل ستكون له أيضاً آثار سياسية وثقافية وأيديولوجية عميقة.

السابق
انطلاق عمل خيم بحر صور
التالي
عون: أنا رئيس التوافق