ما يُقال… وما لا يُقال

لم يعد في جعبة السياسيين ما يُقال عن الاستحقاق الرئاسي الذي دخل ربع الساعة الأخير من المهلة الدستورية. قيل الكثير الكثير في هذا السبيل خلال الاشهر الماضية، حتى غصت الشاشات والمجالس بالكلام المباح الذي لا يقدّم ولا يؤخّر ولا يبدّل المعطيات القائمة، لكن الأهم هو في ما لا يُقال، وهو زبدة الكلام الذي يُفترض أن يُقرّ به اللبنانيون ويعملوا بموجبه اذا كانوا ينشدون الخلاص والاستقرار.
ما يقال، إن اللبنانيين فاشلون وعاجزون عن مواجهة الاستحقاقات الاساسية ومعالجة شؤونهم والتفاهم على حل مشاكلهم، فباتت انتخاباتهم الرئاسية مهددة بالفراغ مثنى وثلاث ورباع، والله أعلم، وانتخاباتهم النيابية موصومة بالتأجيل والتمديد، وتشكيل حكوماتهم محكوم بالتطويل وتصريف الأعمال وتعطيل المؤسسات وشؤون العباد. وما سلف لم يعد تقويلا ولا تنظيرا، بل هو واقع يعيشه البلد منذ أربعة عقود من الزمن على نحو فاقع، ومنذ الاستقلال على نحو أخف وطأة.
وما يقال إن هذا الواقع تعود أسبابه الى الارتباطات الخارجية للقوى السياسية والطوائف اللبنانية، التي ما زالت منذ العام 1860 تعيش في عصر الحمايات الأجنبية. وهذا الكلام ليس فيه من الظلم أو التجني على أحد، بقدر ما فيه من الحقائق التي لا تحتمل الجدل. وعلى الرغم من ذلك يكثر الكلام عن السيادة والاستقلال والقرار الحر، حتى ليكاد الاجانب العارفون بإسرارنا وبواطننا ينقلبون على أعقابهم من الضحك على قصائدنا السياسية العصماء.
لكن ما لا يقال، أو يقال باستحياء مشفوع برفع العتب، إن ما سلف هو نتيجة وليس سببا، وإن نظامنا السياسي الطائفي هو السبب الوحيد الأوحد لكل مصائبنا وويلاتنا وبلاوينا وفشلنا وعجزنا وارتباطنا الخارجي، إقليميا ودوليا، وإن هذا النظام في طريق مسدود، شاء من شاء وأبى من أبى، وإن هذا اللبنان لن يشهد الاستقرار في ظل هذا النظام، ولو بعد ألف سنة.
ما يقال، إن دستورنا الذي جاء به اتفاق الطائف فيه بعض الخلل ويجب إدخال تعديلات عليه. لكنّ ما لا يقال، إن هذه التعديلات المقترحة من جانب بعض الساسة، تصب في صلب النظام الطائفي، كأن المطلوب فقط تصحيح صلاحيات هذا الرئيس على حساب ذاك، أو تعديل حصة هذه الطائفة على حساب تلك، فيما المطلوب تعديلات جذرية تنسف هذا النظام من اساسه لمصلحة المواطنة على حساب كل الطوائف.
والمؤسف والمبكي ـ المضحك في آن معا، أن الجيل الجديد، جيل الشباب الذي يعول عليه للمستقبل، والذي يفترض أن يكون قد أخذ العبرة من تاريخنا الطويل ومن تجاربنا السابقة، يزداد توغلا في دهاليز هذا النظام الطائفي، حتى ليصح القول إن معظم الناس في لبنان باتوا على دين ملوكهم، فيكاد المرء يعترف براحة ضمير أن واقعنا عندما اندلعت الحرب في العام 1975، كان أفضل بكثير مما نحن عليه اليوم. فمن يراقب الندوات المتلفزة والنقاشات الدائرة في الشوارع والمجالس والمدارس والجامعات والمقاهي، يقف على حقيقة مريرة فيها من العيب والخجل ما يندى له جبين الدهر.
ما يقال اليوم كلام ممجوج ملّه القاصي والداني حتى باتت الحوارات والنقاشات مجرد مماحكات لا تسمن ولا تغني ولا تطعم جائعا ولا تسد رمقا. وما لا يقال، إن نظامنا قد هرم وشاخ، وإن بلدنا بات على حافة القبر، وإن هذا النظام القائم سوف يدفن لبنان عاجلا أم آجلا، ولنا من بعده طول البقاء… ولكن بلا وطن.

السابق
على هامش صحافة تحسّس الرّقاب: حريّة الترهيب!
التالي
كيف ترى قوى 8 آذار مرحلة ما بعد 25 أيار؟