حكايات من الضيعة

حكايات من الضيعة

يعتمد أهل حيّ الضيعة، بل الضيعة بأكملها على الزراعة مصدراً وحيداً للرزق، فتكثر زراعة القمح والشعير والعدس، وتنتشر كروم العنب والتين والزيتون وغيرها من الزراعات.

عدا عن الزراعة، يعتمد الأهالي على تربية المواشي، من بقر وماعز وأغنام أضف إليها الحمير والدواب التي يستخدمونها في التنقل وفي نقل الأغراض وغيرها، ويقتني أكثرية الأهالي الدجاج الذي يحرصون على حمايته من السباع والضباع وبنات آوى وحتى من السرقة، ذلك أنه يبيض ذهباً.

ولأن المال غير متوافر في يدي الناس، كانت “المداكشة”[1] هي الحل من أجل تبادل البضائع، ينتظر الأولاد إباضة الدجاج كي يتوجهوا في اليوم التالي إلى الدكان لاستبدال البيضة بما يرغبون في الحصول عليه من حلوى أو غيرها.

وسيلة الإضاءة المتاحة هي السراج والفتيل، والذي عرفوه قبل سنين قليلة، مستخدمين الكاز في إشعاله، إذ كان البعض يتوجه إلى من لديه نور حتى يشعل من عنده “الزبلة”[2] كي يوفر عود الكبريت.

عرفت بعض البيوت الآبار التي حفرها الأهالي بمساعدة بعضهم البعض، ومنها ما هو قديم ويعود إلى أيام الرومان، ثم حولوا إليها مياه الشتاء من سطوح المنازل.

يستخدم الأهالي “المرسة والصطيلة”[3] لاستخراج الماء من البئر، لم يعرف أحد من حي الضيعة مضخة الحديد، ذلك أن كلفتها باهظة جداً، وبالرغم من ذلك فإن الكثير من البيوت لم تعرف الآبار، لهذا تقوم النسوة من جملة ما يقمن به من أعمال بالتوجه إلى إحدى العيون في أطراف البلدة، لملء مياه الشفة، أو لغسيل الثياب وجلي الأواني، أو لري الماشية وينجز البعض هذه الأعمال في البركة التي تتوسط الضيعة.

في مواسم الحصاد أو جرش العدس والبرغل، يدعو من لديه الجرّاشة، الأهالي إلى السهر في منزله، وهكذا تعمر حلقات الدبكة والسهر والعمل في نفس الوقت، وبرغم ذلك تحرص بعض العائلات المحافظة على عدم إرسال بناتهم إلى تلك الدعوات.

يستمر الحصاد أياماً، وأحياناً أسابيع، ينقسم الأهالي إلى قسمين، قسم لحصد الشعير والقمح، وآخر لحصد “الكرسنّة”[4]، حيث يحصد القمح والشعير بطريق “الزوبر”[5] أو “الديمرج”[6]، فيما تحصد الكرسنة بواسطة الأيدي، التي يسببها يمضي الرجال والنسوة أياماً لنزع الشوك من أيديهم.

أما الدَّرَّاسة فتُجرى في البيادر بعد أن ينقل القمح والشعير بواسطة الدواب إليها وذلك من خلال “النورج”، والذي هو عبارة عن ألواح خشب رصت إلى بعضها وثبت في وجهها السفلي مجموعة من أحجار الصوان صغيرة الحجم ثبتت بانتظام لتقوم بعملية تفتيت سنابل القمح وتنعيمها فتفصل القمح عن القش.

تجرّ “النورج” بقرتان، ويعمد البعض إلى عدم الاغتسال طوال فترة عمله في الحصيدة، فيما كان البعض يعتبر أن تركه العمل في الحصيدة لأي سبب كان إهانة.

وينتظر الحصادون حتى يكون في الجو بعض ريح لذر الشعير، ويتم ذلك بواسطة “المدراية”[7]، وبعد الذَرْي تقوم النسوة بجمع كل شيء على الأرض في شوالات خيش فيخطنها، ثم تُنقل بعد ذلك للتخزين.

لاحقاً، عرف الأهالي الدَّرَّاسة الحديثة فصار القمح يجمع في أكوام، غمار، وفي اليوم التالي تُجلب الدراسة، ومن يصعد عليها يمسك “الشاعوب”[8] الذي يلتقط به الغمار أما الواقف أرضاً فيقوم بسحب القمح أو الشعير من تحت الدراسة.

كما كان الحصادون يتعرّضون لـ”كبسات”[9] من رجال الدرك لمراقبتهم أثناء استخدام “المسّاس”[10] الذي يُحثّون به البقر والتأكد من خلو رأس المسّاس من المسمار وذلك تطبيقاً لقانون الانتداب الفرنسي القاضي بالرفق بالحيوان.

يمر القمح قبل الطحن أو صناعة البرغل بمرحلة التصويل، أي غسله بالماء النظيف وتنقيته من التراب والحصى الصغيرة والقش والتبن وهي كلها من مخلّفات الحصاد والتذرية.

تبدأ عملية التصويل بإحضار أواني النحاس الكبيرة للغسيل، وهي مجموعة من المعاجن ويؤتى بعدد من الغرابيل مختلفة الأحجام وتقوم بعملية التصويل هذه مجموعة من النسوة يزيد عددهن على الثلاث، في البداية يوضع القمح في أوعية النحاس ويسكب فوقه الماء إلى أن يغمر القمح كله، وعندما تطفو الأوساخ مثل القش والنثرات على سطح الماء، تطرح هذه المياه المليئة بالشوائب خارج الأوعية وتعاد العملية أكثر من مرة. وفي كل مرة يحرّك القمح داخل الوعاء بالأيدي للتخلص من الشوائب، ثم ينقل القمح إلى وعاء آخر فيه ماء نظيف، وتبدأ امرأة أخرى في غَرْف القمح وتحريكه بيديها وتنظيفه من الأحجار والأشياء الصلبة ثم ينقل القمح بعدها إلى وعاء آخر فيه ماء نظيف لإزالة الشوائب لآخر مرة، وجميع هذه المراحل تحتاج لكثير من الماء، الذي ينقل من العيون.

تشارك النسوة في سلق القمح الذي يتم في “الخلئينة”[11]، وتستغرق هذه العملية أي سلق القمح نهاراً بكامله، وامتهن البعض هذه المهنة وأقام أمام داره موقداً للخلئينة.

بعد ان يجفّف القمح فوق أسطح المنازل تحت أشعة الشمس لأيام، تبدأ مرحلة “التنئيب”[12] لعزل “الزيوانة والمريري والأزحة والدحيريجي”[13] وغيرها، ثم يُجرش ليستخرج منه البرغل الناعم والخشن، فيما تستخدم بقايا البرغل “الرويشة”[14] لصنع “المخدات”[15].

عبّاس جعفر الحسيني

  • من كتابه الـ”آخر أيام السكوكع (من حكايا نساء حي الضيعة)” – الصادر حديثاً عن “دار المنهل اللبناني”


[1]  المداكشة: المقايضة أو المبادلة.

[2]  الزبلة: من زبل أي روث البقر.

[3]  المرسة والصطيلة: المرسة هي الحبل، أما الصطيلة فهي دلو من التنك، بحيث يربط الحبل بالدلو لسحب الماء من البئر.

[4]  الكرسنّة: نبات عشبي من فصيلة القطانيات يشبه نبات العدس، ولا يأكله البشر لأنه يؤدي إلى انحلال الدم. ويردد المزارعون الأهزوجة التالية عن الكرسنة: زرعنا حبة كرسنة على شفة كيس إمي، يا كساب ويا وهاب، شيل كيسك عن كيس إمي.

[5]  الزوبر: هو المنجل والذي هو مثال القوة والعمل الجاد، يستخدم في الحصاد وهو قطعة حديد معكوفة ولها مقبض خشب.

[6]  الديمرج: هو أداة حديد على شكل حرف S، تستخدم في حصاد القمح.

[7]  المدراية: المذراية، عصا طويلة في آخرها أربع أصابع خشب متساوية ومتقاربة لفصل الحبوب عن التبن عبر ذره في الهواء.

[8]  الشاعوبة: عصا خشب في آخرها أربع أصابع حديد لالتقاط غمار القمح.

[9]  كبسات، جمع كبسة، وهي دورية مباغتة لرجال الدرك.

[10]  المسّاس: عصا طويلة في رأسها جسم حاد تستخدم لحثّ الدواب.

[11]  الخلئينة: الخلقينة، وعاء حديد كبير يسلق فيه القمح ويوجد منه حجمان، صغير ويستوعب 9 أمداد، وكبير ويستوعب 14 مدّاً.

[12]  التنقيب: فحص الدقيق عن الشوائب.

[13]  الزوانة والمريري والأزحة والدحيريجي: جنس نبات يتبع الفصيلة النجيلية وهي من محاصيل العلف.

[14]  رويشة: بقايا التبن التي تغربل من القمح بعد درسه وهي ناعمة كالريش.

[15]  مخدات: جمع مخدة، أريكة ناعمة توضع تحت الرأس أو الخد أثناء النوم.

السابق
من هي هذه النجمة وشقيقها؟
التالي
هناك نوع من النمل السفاح