طرابلس ما بعد الحرب: نفرح أو نحزن؟

طرابلس
لا تبدو طرابلس في صورتها العامّة كمدينة تتعافى من جراحها. لا يبدو أهلها غاضبين كفاية. كأنّ الألم الذي أصاب مكانهم لم يكن كافياً ليحدث في وعيهم صدمة اجتماعية. يبدون طيبين أكثر ممّا يجب، طيّبين لدرجة حزينة. يبدون راضين وفرحين لدرجة مؤلمة. وتبدو المدينة مستسلمة.

تنفسّ أهالي طرابلس الصعداء بعد حرب متقطّعة على مدى ثلاثة سنوات. حرب كسائر الحروب في لبنان، تبقى بداياتها مجهولة ونهاياتها مفتوحة. الحلّة الجديدة للمدينة هذه المرّة كانت لافتات تنديد بترشّح رئيس حزب القوات اللّبنانية سمير جعجع كـ”مكانك رومية وليس بعبدا” موقّعة بمعظمها من نقابات عمّالية في المدينة.
في شوارع المدينة، الحياة عادية. المحلات مفتوحة. بائع الكعك أعاد “التخييم” في ساحة النور. وفي شارع المنلا فتاتان ترتديان ملابس رياضية (شورت قصير وقميص) تبدوان عائدتين من صف رياضي. المقاهي مزدحمة بروادها والمدارس “قصّرت” عطلة الفصح لتعويض التلاميذ ما فاتهم من العام الدراسي. حتّى أنّ مطعم الـ”كي.اف.سي” الذي تمّ إحراقه مسبقاً في المدينة أعيد افتتاحه واستعاد ألقه.
“صار فينا نتنفس، الزعران كانوا بكل الشوارع رح ياكلونا”، تقول واحدة من سكّان المدينة وهي تعبّر بفرحتها عن استتباب الأمن في المدينة. معظم من يُسأل عن حال طرابلس اليوم من أبنائها يقول “ما في شي” و”خلصت على خير” بعفوية وشعور بالراحة لإزاحة الكابوس الّذي كان قابضاً على الفيحاء. “بسحر ساحر اجت كونتينرات حمّلت الكلّ، العلوكة والمصري ولمّوهن بعيد”، يقول أحدهم، مبدياً تخوّفه من دور جديد يُعطى لأحد الإسلاميين المتشددين في الظلّ.
لا تبدو طرابلس في صورتها العامّة كمدينة تتعافى من جراحها. لا يبدو أهلها غاضبين كفاية. كأنّ الألم الذي أصاب مكانهم لم يكن كافياً ليحدث في وعيهم صدمة اجتماعية. يبدون طيبين أكثر ممّا يجب، طيّبين لدرجة حزينة. يبدون راضين وفرحين لدرجة مؤلمة. وتبدو المدينة مستسلمة لواقع يرتهنها.
الحركة طبعاً موجودة، الاحتفالات المدرسية، الماراثون، النشاطات الخجولة، مهرجان السينما الّذي عزم ناشطو المجتمع المدني على عقده بنجاح. نداء الباعة، مشهد المصالحة الفولوكلورية لأبناء أحياء لم تكن تكره بعضها فعلياً. غياب للمظاهر المسلّحة. كلّ هذه الإيجابية لا تمنع الغصّة في الحلق ولا تدفع إلى الأمل بأن ينتهي الظلام والتهميش في طرابلس. لا زالت فرص العمل في المدينة شبه معدومة وقد تبقى المشاريع الإنمائية مجرّد سراب أو وعود سياسية وليس أكثر.
في هواء هذه المدينة لمن خرج وتنشّق غيره رائحة مختلفة، شعور بالنقمة على حال مكان يمكن أن يكون أفضل ممّا هو بكثير. شعور أيضاً بالشجن لأنّ طرابلس تبدو عالقة في مأزق عدم قدرتها على مجاراة الحداثة إلّا من الناحية التجارية ربما وعالقة في مأزق التقوقع الذي يفصلها عن باقي البلاد. هذا عدا عن مأزق التديّن والهوية الإسلامية الملتبسة التي تدلّ على الخوف أكثر من الإيمان.
تبدو طرابلس كمدينة ساكنة لا تريد أن يقترب منها أحد. مدينة لها من دون شك خصوصية جميلة وحميمة تفتقدها غريمتها بيروت. مدينة التسويات والتناقضات والتضحيات. ولكن بعد كل ما جرى لها وفي وقوفها الآن على باب مستقبل مجهول يبدو الحاضر فيه “وقت مستقطع ومؤقت”، السؤال هو ماذا نفعل نحن الّذين نريدها مختلفة كما يليق بها: هل نفرح أو نحزن؟

السابق
حافظوا على المصالحة الوطنية
التالي
تعرف على قصة عميلة الموساد التي قدمت خمورا لمسؤول سورى مقابل وثائق نووية