جالسة في مقهى صغير يطلّ على البحر. المدى أمامي شديد الاتّساع. لكن الرؤية تضيق شيئاً فشيئاً. لست وحدي. عمليّاً ترافقني ابنتي الصغيرة وإحدى صديقاتها. ضمناً، معي غربتي. هي ليست الوحدة. ليتها كانت كذلك. إنّها مفارقة غريبة تصحبني منذ الصغر، ضرورة ملامسة القعر (القاع) لبلوغ “السطح”. جزء مني هنا. جزء آخر مع فتاتين صغيرتين. جزء تاه مني. وجزء أخير بقي عالقاً في حديث مع صديقتي.
سأبدأ من الجزء الأخير، برغم أنّي لا أؤمن بالبدايات ولا بالنهايات. كانت صديقتي الّتي أعرفها منذ زمن طويل تحدّثني عن ذاتها، وعن تناقضات نعاني منها نحن “الجنس اللطيف” بين رغبتنا في الانعتاق من الموروث الاجتماعي والخوف من التحرر. وأشارت هي المقبلة على زواج تقليدي إلى كونها غير واثقة ممّا تريد وإلى بحثها عن الأمان لأنّها غير مؤمنة بقدرتها على خوض معترك الحياة وحدها. هو معترك مؤلم ومظلم ومجهول. هذا أمر مؤكّد. ولكنّه أيضاً شديد الإغراء.
لن أستفيض في الحديث عن الزواج والعلاقات. ما استوقفني فعلاً هو بوحها بأنّها كانت يوماً ما طفلة معنّفة، وهو أمر لم أكن أعرف عنه برغم علاقتي الوثيقة بها. أخبرتني أنّها في محاولة للغوص في أعماقها، راحت تستذكر صورها وهي فتاة صغيرة تتلقّى ضرباً مبرحاً (من دون أن تشير ممّن) وتوصم بصفة الفشل. وهي الآن تصطدم بهذه الأحداث كلّما أرادت أن تنسى. وهي في العقد الثاني من عمرها، تسأل صديقتي خطيبها إن كان قد يقدم على ضربها يوماً.
تقول أيضاً أنّها تلجأ أحياناً إلى التعنيف وأنّ بها رغبة في التدمير، ورغبة متناقضة في الخضوع. ومن البديهي أن يتصارع الجزء الشرس منها، والمتعلّق بغريزة البقاء مع الجزء الآخر الّذي أراه طفولة مسلوبة، تسبّبت في شروخ وندوب على روحها ووجودها. أراها أيضاً أسيرة الجماعة الّتي تنتمي إليها. وأرى ذاك الفائض منها الّذي يصرخ تحت الجلد ويطالب بأن تأخذ تلك الذات شكلاً آخر هي نفسها عاجزة عن تحديده.
أرى نفسي أيضاً، موصومةً بمثالية خرقاء ممنوع فيها ارتكاب الخطاء. لكنّي أعجز عن رؤية نفسي طفلة، كأنّي كبرت قبل الأوان. كأنّي خرجت من رحم أمّي كما أنا الآن، أكبر دوماً من السنين. أرى طيفي يلعب في قرية صغيرة. لكنّه مجرّد طيف. لا أستطيع استعادة جسد صغير ولا ألعاب لا أعرف إن كانت لي يوماً. بقي أمامي نتفٌ من الذكريات وشعور مبكر بالهرم، ورغبة بأن أبقى في العقد الثالث من العمر حتّى ألحق ما فات منه، الجزء التائه منّي. إن أخذت من المرء طفولته، سلبته عموده الفقري، تماماً كأنّه كبر من دون سيقان. أرى أطفال العالم العربي منهمكين بالخوف، بالقوانين الغير مجدية. كثيرون منهم ينامون جياع. وكثيرون يشعرون بأنّهم غير مرغوبين فيتنقلّون بين جدران الخيبة عراة، شريدي أبوابهم.
أرى العديد من الأولاد، يتهافتون على السيارات وأفكّر ماذا لو ولدوا في مكان آخر. أرى بعضهم حفاة. وأحياناً تغيب عني ملامحهم، كأنّ بنيتهم تصبح أكبر ممّا هي فعلاً. كأنّهم كبروا وصارت أصواتهم خشنة. كأنّهم ليسوا مجرّد أطفال. أرى ما أرى ثم أهرب إلى المدى حيث يتسّع الأفق وتضيق الرؤية.
أرى ابنتي تلعب مع صديقتها. أسترق السمع إلى حديثهما، ليس للمراقبة، إنّما مدفوعةً بالفضول. كلامهما عن الألعاب والألوان. أراهما تأكلان. صديقتها تطلب منها أن تمضغ على مهل وألّا تتحدّث وهي تأكل. ألاحظ للمرّة الأولى أنّي لا أمارس فعل الأمومة بمعناه التعليمي وتلقين ابنتي التعاليم الاجتماعية، لسب واحد فقط، أنّي أريدها أن تكون هي، وليس أي شخصٍ آخر. أريدها أن تركض وتلعب كثيراً، وتضحك. وأريدها أن تقوم بواجباتها أيضاً بتلقائية، انطلاقاً من ترسيخ احترامها لكيانها وحبّها للحياة. والأهم من ذلك، أني أريدها أن تكون سعيدة.
أريد أشياء كثيرة، كألّا أنجب مجدّداً، ليس كراهيةً بالأطفال، إنّما خوفاً عليهم، خوفاً من ألّا نفيهم حقوقهم ومن أن نكون قد خدعناهم حين قلنا أن عالمنا مكان يليق بهم. خوفاً من أن يكبروا ونعجز عن حمايتهم، ومن أن يكتشفوا أنّنا كذبنا حين أخبرنا كل تلك القصص الوهمية عن “وعاشوا بثبات ونبات”. خوفاً من أن تكون الطفولة أيضاً بدعة مختلقة. خوفاً من النظام وثمن كسر الأنظمة. خوفاً من الشعور بالتشرد في كنف العائلة والوطن. خوفاً من أن يكبروا وألّا يكبروا. خوفاً من ألّا يبقى من حكاياهم سوى طفولة مسلوبة.