العقل اللا ديمقراطي لدى الحكم والمعارضة

كشفت الثورات العربية طريقة تفكير النخب السياسية والثقافية ووضعتها على المحك، حين اختبرت المبادئ والمعايير المعتمدة التي يتم الاحتكام إليها أثناء اتخاذ المواقف، وعندما حددت التناقض بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، وأوضحت مدى الانسجام والتنافر بين المواقف والمبادئ والمعايير.
يجوز القول ان الثورات وأشكال الصراع المحتدم أزالت اللبس والغموض عن القوى والنخب والافراد بمستوى غير مسبوق.
الاشكال القديم الجديد هو غياب فن التراجع والتنازل لدى النخب الحاكمة في كل الاحوال ومهما بلغت النتائج.
ولنا في نموذج الحكام الذين ثارت عليهم شعوبهم، الذين لم يعترفوا بالثورة ولم يصغوا لصوت الشعوب، وانكروا حق الشعوب في الحصول على الحرية والخبز والديمقراطية.
اعتبروا أن ما حدث مؤامرة خارجية، وجردوا أعنف الحملات العسكرية لاخماد الثورات.
كان شعار القذافي والأسد وعلي عبد الله صالح “علي وعلى أعدائي”. الاعداء منذ البداية كانوا الشعوب الى أن من الله عليهم بداعش والنصرة وكل فروع القاعدة ودعم “البترو والغاز دولار” الذين تم دمجهم بالشعب في صيغة “العدو الارهابي”.
السؤال: الم يكن لدى هؤلاء خيارات أخرى، كتغيير في شكل الحكم، وتغيير في رأس الحكم وتقديم تنازلات للشعب تجعل التوافق ممكنا؟ الا يستحق بلد كسورية تراجع النظام الذي حكم 44 عاما عن شكل الحكم الذي لم يعد مقبولا لدى اكثرية الشعب.
كل الانظمة الرئاسية الديمقراطية تحدد فترتين انتخابيتين للرئيس وبعد ذلك يترشح رئيس جديد.
الانظمة العربية تجاوزت كل أنواع الانظمة الديكتاتورية العالمية في البقاء على سدة الحكم اطول مدة اي حتى الموت الطبيعي، وبعد الموت يورث الحكم للابناء.
إن موت 150 الف مواطن ومواطنة، وتشريد 9 ملايين مواطن ومواطنة، وتدمير 40% من المدن والبلدات لا يحفز النظام على التفكير بخيارات أخرى لانقاذ البقية الباقية ووقف نزيف الدماء ومسلسل الدمار.
عندما لا يوجد في قاموس النظام كلمة تراجع او تغيير في كل الاحوال والظروف، سينعكس ذلك على طبيعة المعارضة التي ستكون في هذه الحالة الوجه الآخر للنظام.
فلم يكن من باب الصدفة صعود داعش والنصرة والجهاديين الى المقدمة وتراجع القوى الديمقراطية والعلمانية والمتنورة.
إذا كان النظام قد تشكل بطبيعة شمولية ديكتاتورية غير قابلة للصد والرد والاستجابة والتغيير، فكيف لمثقفين وديمقراطيين ويساريين احزابا وافرادا ومؤسسات ان لا يطالبوا النظام بالذهاب الى حل سياسي بدلا من الامني، أن لا يعترضوا على سفك الدماء والتدمير. ان لا يطالبوا بالديمقراطية. إن تأييدهم وإعجابهم وحبهم للنظام بسبب (الممانعة ) – العقيمة من وجهة نظر اتجاهات سياسية وفكرية معادية للامبريالية والرجعية – لا يجيز لهم السكوت على موت وتشريد السوريين، وعلى الانحياز لشكل الحكم الديكتاتوري الابدي، وعلى التوريث وتزوير إرادة الشعب بانتخابات صورية.
حتى لو حرر نظام الاسد هضبة الجولان فهذا الانجاز الافتراضي الهائل لا يسمح له بفرض ديكتاتورية على شعبه.
تقول النظرية الماركسية يجوز تأييد النظام البرجوازي عندما يتخذ مواقف صحيحة، وينبغي نقده والاشتباك معه عندما يخطئ ويقمع ويمارس الفساد ويرتكب الحماقات.
وفي كل الاحوال فإن الانحياز للطبقات الشعبية هو البوصلة. في اي صراع بين البرجوازية والشعب ينبغي الانحياز للشعب.
أين اليسار من هذا المبدأ الناظم؟ واين المثقف من مبدأ الحريات وحقوق الانسان؟ كيف يمكن الثقة بمثقف لا يكترث بقهر شعب وبموت الاطفال وبسطوة الديكتاتورية والتوريث والطائفية.
هل مناهضة الامبريالية والرجعية تستدعي كل هذا الصمت على قهر الشعوب؟ لماذا لا يتم الجمع بين تأييد النظام ومطالبته بوقف آلة القتل، وبإعادة الاطفال الى بيوتهم ومدارسهم، وبإعادة المنكوبين الى وطنهم وترميم بيوتهم.
لماذا لا تتم مطالبة النظام بالتنازل للشعب كما يتنازل للامبريالية الاميركية والاسرائيلية؟ وبالتعامل المرن مع شعبه كما يتعامل بمرونة مع الاعداء ؟ عندما نكون امام معادلة نظام لا يتراجع ونخب سياسية وثقافية لا تضع اية شروط مقابل تأييدها للنظام يعاد انتاج استعصاء الاصلاح والتغيير.
الحالة السورية ليست استثناء، إذا توقفنا عند تجربة حماس في قطاع غزة، فإن المشهد يتكرر.
حركة حماس وسلطتها لا تعرفان التراجع ولا المرونة في مطلق الاحوال، فرغم الحصار الإسرائيلي، وحالة الخلاف الكبير مع النظام المصري، والأزمة الاقتصادية الخانقة، وانقطاع التيار الكهربائي نصف الوقت، وبلوغ نسبة المواطنين الذين يقعون تحت خط الفقر 40% من مجمل السكان. ورغم كل ذلك تتمسك حماس بسياساتها ومواقفها، وتسعى إلى تعميق سلطتها في القطاع، سلطة الحزب الحاكم المطلقة، فعوضا عن البحث في حلول للاختناقات المعيشية، تناقش مشروعا للعقوبات يتضمن قطع يد السارق وجلد الزناة أو قتلهم وغير ذلك.
في كل المتغيرات الهائلة يوجد ثابت واحد هو بقاء حماس في السلطة وتشييد امارتها في قطاع غزة.
ولا يهم معاناة المواطنين، ولا يهم بقاء القطاع منفصلا عن الضفة الغربية حتى لو تقاطع ذلك مع أهداف دولة الاحتلال.
ولا يهم بقاء شعار إنهاء الانقسام بديلا للوحدة الوطنية.
السؤال لماذا تنعدم حساسية حركة حماس للمتغيرات التي تفضي إلى معاناة حقيقية للشعب.
فمنذ صعودها للسلطة وهي تعدم أية مرونة لمواجهة التحديات والبحث عن حلول.
النخب الثقافية والسياسية تكرر الخطاب ذاته في مواجهة الانقسام ولا تمارس النقد والضغط اللازمين لإنهائه.
والاهم لا يوجد اكتراث بتعطيل الديمقراطية ولا بشلل المؤسسات الرسمية كالمجلسين الوطني والمركزي والمجلس التشريعي واللجان المنبثقة عنها. اصبحنا امام، قوى ترفض التغيير والتجديد ونخب تتعايش مع هذه الحالة. والمشكلة تكمن في المعايير والمبادئ الناظمة.
تجربة الاخوان المسلمين في السلطة وافتقادهم للحساسية تجاه نبض الشعب المصري واحتياجاته ومطالبه، وتجاهلهم للتغيير الذي طرأ على الرأي العام المصري بعد أن قدموا نموذجهم البائس في الحكم.
وعنادهم ولجوؤهم الى المقامرة بالتنظيم وباستقرار البلد ومصالح الشعب في سبيل استعادة السلطة.
عدم الاستعداد للتراجع خاصية كل مستبد نظاما كان أم حزبا وجماعة.
هذه الخاصية التي تستمر في غياب النقد والصراع الديمقراطي والثقافة الديمقراطية.
خاصية تفضي إلى عقل لا ديمقراطي لدى الحكم والمعارضة على حد سواء.

السابق
ايران تعيد تنظيم حزب الله بعد الكشف عن وجود تسريبات داخله
التالي
إحباط عمليّة إطلاق صواريخ نحو النبي عثمان