المخرج اللبناني الذي يعيش في المكبّ!

جورج شبح المدينة الذي لا يشعر بوجوده أحد. يعتقد مَن يلتقيه للمرة الاولى أنه قعر هذه المدينة، هامشها المظلم، مأزقها المتصدّع لا بل وصمة العار التي على جبينها. لكنه أعمق من الهامش، وأقسى من العار، وأبعد من القعر.

جورج مخرج، فنّان، مصوّر. “نابغة”: بهذه الكلمة عرّف به الصديق الذي قادني اليه في المنطقة الصناعية الواقعة قرب مكبّ النفايات (الدورة)، ذات ربيع من عام 2009. آنذاك، كتبتُ عنه مقالاً بهدف أن يلتفت اليه أحد. لكن أحداً لم يلتفت.

مذذاك، زرته أكثر من مرّة. دائماً، كان يبدي الاستعداد نفسه للحديث ولكشف أسرار القلب ونفض غبار الزمن عنه.
جورج يعيش منذ سنوات في شبه كوخ من التنك. رفاقه الحشرات والجرذان وأكلة لحوم القطط التي ضلّت طريقها الى المدينة الصناعية لبيروت حيث كل انواع المهمشين والسكارى والذين “لا حيلة لهم ولا فتيلة”. كلّ هؤلاء الذين لم يجدوا خيمة تؤويهم سوى عراء هذه البقعة المسمومة الموبوءة. بقعة ترمي فيها المدينة لعنتها.

لا ماء لا كهرباء في الأمتار المربعة القليلة التي احتلها جورح. لا سماء ترأف به وبأمثاله. حتى الرياح لا تحمل الى أنفه الا رائحة العفن ولا تغذي رئتيه بسوى السرطان!
جورج هو هذا الرجل الصامد الذي حوّلته ظروف حياته والمصائب الشخصية التي حلت به، كائناً “موجوداً بالزور”، يأكل من بقايا الناس، ويشرب من ينبوع جاف ويعتاش من بقايا الأحلام. هجره كلّ شيء ولم يبق سوى القطط: هذه القطط التي تتحلق حوله عندما يتكلم، يعتبرها أقرب الكائنات اليه. لا بل هي أشبه بعناصر حماية مستعدة للدفاع عن الـ”معلم” عند الحاجة.
قبل أن ألتقيه، لم أكن سمعتُ قطّ لمتشرد كلاماً ينضح ألماً كالذي سمعته من جورج. روى لي انه من الشريط الحدودي الذي لم يزه منذ 15 سنة. في مرحلة مزدهرة من حياته، كان يعمل لمنظمة الصحّة العالمية والبعثة البابوية. ثم دخل مجال التصوير وتأجير معدات صناعة الأفلام. سافر الى أماكن متفرقة وتعرّف الى العالم. ثم عاد الى لبنان. عندما كانت محطة هيئة الاذاعة البريطانية تأتي الى لبنان، كان هو يزودها كاميرات الـ”أريفليكس” الشهيرة التي امتلك مجموعة منها.

عملياً، يصعب التأكد من أيٍّ من تلك الروايات التي يضعها جورج في تصرف الزائر. بيد أن الأسماء التي يأتي على ذكرها كفيلة إضفاء بعض الصدقية عليها. يحكي، مثلاً، انه عمل مساعد مخرج لمارك أليغريه عندما ذهب للعمل في فرنسا. “كوني جميلة واصمتي”، عنوان الفيلم. أعمال أخرى أيضاً اشتغل عليها كمساعد ستاجيير. تدرّب في “كوداك” وعمل في ستوديو بيانكور. في الخمسينات، أسس مع شخصين آخرين رابطة تعنى بشؤون المغتربين. وكتب ما لا يقل عن 15 ألف رسالة بعث بها الى المغتربين.

يأكل جورج بشراهة وينبغي انتظار أن يبلع اللقمة كي أتلقى الجواب عن سؤالي. على الرغم من بؤسه الشديد، لا يتنازل عن غليونه. رؤيته وهو يضع التبغ فيه، متعة خالصة. يجلس جورج كطاووس في مكان أشبه بمزبلة، ولكن تنعدم فيه سلوكيات الشحاذ المتشرد. لا يطلب منك شيئاً، ولا يتصرف كإنتهازي. يتكلم عن “أفلام مؤسسات” صنعها ذات زمن غابر، ولا يرغب في استعادة شريط الذكريات. معظم هذه الأفلام بات اليوم في مكبّ الذاكرة. في “الأشياء” البصرية التي أنجزها، تكلم عن المكفوفين، مساهماً في تجميع تبرعات لتعمير مدرسة. صوّر في كل البلدان العربية. تضمن سجله نحو 100 فيلم، ربما أكثر، اذ كان يهمّ منظمة الصحة العالمية آنذاك تعليم الشعوب. وكان عمله هذا يكفيه لتكون له حياة كريمة ومدخول مادي يليق برجل مثقف يتكلم خمس لغات ولديه مخطط واضح في الحياة.

مُنح جورج ما يكفي من الوقت طوال سنوات التهميش والاقصاء، كي يتأمل في الحياة التي انقلبت عليه جراء الحرب الاهلية. مع ذلك كله، بقى واقعياً: “لا، لا أحب حياتي الحالية. كنت أفضّل أن أكون “غير هيك”، لكن أفضل البقاء هكذا على أن أمشي مع التيار الحالي. لا أريد أن أمشي مع ابليس”.

يتنقل جورج من موضوع الى آخر، من دون رابط. يقول عن السياسيين انهم أمراء الكذب جميعاً. أقوالاً وأفعالاً. “أنا انسان شعبي والكلّ يسلّم عليّ. صحيح أصلي من القرد، لكن أنا أنسان. والانسان هو الحيوان الوحيد الذي يبتسم. أغلب الناس اليوم لديهم ديون. أربعة في المئة من الناس يملكون 96 في المئة من ثروة البلد”.

يرفض جورج أن نطلق على الحرب الأهلية اللبنانية كلمة حرب. يريد أن نسمّيها “مسخرة”. لم يستطع الى اليوم أن يغفر لها. أيّ قبضاي، أيّ كاهن، يستطيع أن يلومه على حقده هذا؟
عندما ذهب جورج الى فنزويلاّ، قبل 1975، ذهب من اجل ان يحاضر في احدى الجامعات عن تقنيات السينما. بقي هناك نحواً من ثلاث سنوات، لكنه عاد ليلبي مقررات من بنود عدة، أحدها كان صناعة مجموعة أفلام سياسية. وهو عاد ليصور هذه الافلام. لكن لبنان كان بدأ يدخل في الجحيم، فسُرقت معدات التصوير القيّمة، وهكذا بدأ يدخل شيئاً فشيئاً في مصير مجهول، وصولاً الى ان بات بلا سقف يؤويه.

جورج لا يستحم. “سأصاب بمرض اذا لمست المياه جسدي”، يقول. يروي انه شاهد في أحد المتاحف الباريسية السراويل الداخلية لأحد ملوك فرنسا: “ظلّ يلبس السروال نفسه لسنوات، كان السروال ملطخاً بالخراء”، يعلق، رابطاً مصيره بمصير الملك.

أسأله اذا يشاهد الأفلام اليوم، فيجيب ان السينما اليوم لا شيء. القراءة؟ يتذرع بعينه التي لا ترى. يتكلم عن ستانيسلافسكي ويأتي على ذكر المسيح الذي “لم يكن يهودياً كما يُشاع”.
يشتكي جورج من عدم وجود ضمان شيخوخة في لبنان. هذا الكهل الذي صار في الثانية والثمانين اليوم، يكرر من دون توقف أن أرقى البلدان للعجزة هي البلدان الاسكاندينافية، وهي أكثر البلدان التي تشهد عمليات انتحار. هذا هو السبب، في رأيه، الذي حمل الناس على اعتبار الحيوان ضرورة لمرافقة الانسان. ما إن أسأله عن العائلة، عن أخ أو إبن عمّ الخ، يعتمد على أفرادها عند الحاجة، حتى اراه يردّ مستنفراً: “ألست أخي أنت؟”.

السابق
كيف يُصرف موقف الهيئات من السلسلة؟
التالي
«اليونيفيل» يدعو ملكة جمال لبنان كارين غراوي