شباب من الجنوب… عالهوية بسّ!

بيني وبين أحمد الطرابلسي وبين عاصم بزّي تقارب في مكان واحد: علاقة ملتبسة بالجنوب ورغبة في الإبداع كردّة فعل ربما. يروي عاصم أنّه كان في بنت جبيل مع والده والعائلة، حول سفرة بلدية وشاي، وفجأة رفع فنجان الشاي وقال: كأسكم. فنظر الجميع نحوه باستغراب شديد، كما لو أنّهم ينهرونه بنظراتهم. هذه الحادثة لا ينساها عاصم. كما لو أنّها رسمت خطّ تماس في ذاكرته بينه وبين بنت جبيل، وبينه وبين أهل القرية.

خلال سنواتي العشرين في لبنان، لم أذكر يوماً أنني اشتقت إلى الجنوب كما يشتاق الفلّاح إلى أرضه، أو كما يحنّ القرويّ النازح إلى المدينة، ولو بعد عشرين أو ثلاثين عاما، للاستيقاظ باكرا من النوم والخروج إلى الحقل، فقط ليشمّ هواءً عليلا لا أكثر.

علاقتي بالجنوب، أنا والعشرات وربما المئات والآلاف ممن ولدوا وعاشوا في بيروت، هي علاقة متقطّعة. أنا شخصيا أقيم علاقة “إبداعية” وطيدة معه. كشاب يكتب الشعر لا أجد سبيلا إلى التعبير عن رغبتي بالوحدة والابتعاد عن الناس سوى الجنوب.

أنا ابن وادي جيلو في صور لم أولد في صور، ولم أترعرع في النبطية ولم أسكن في بنت جبيل. لكنني، في كلّ مرّة كنت أزور الجنوب، كنت أستمتع بعاداتٍ وتقاليد متواضعة لا أجد مثيلا لها أبدا في بيروت أو في مدينةٍ أخرى أزورها. هناك الطعام المختلف، والشراب “الطبيعي”، لبنا كان أو عصيرا أو حتّى عرقا. وهناك الانقطاع عن كلّ أنواع التكنولوجيا والإرسال الهاتفي، ما يُشكل لي مناخا للوحدة والإبداع. لكنّني، وبالطبع، لا أستطيع تحمّل الضيعة أكثر من يومين، لأعود إلى دخان المدينة وموسيقى الزمامير اليومية في الشارع.
خطر لي أنّ أسأل عدد من الشبّان الذين يشبهونني عن علاقتهم بقراهم الجنوبية. وهم شباب مبدعون. وقد استخلصت أنّ الأراء تختلف وتتناقض أحيانا.

فأحمد الطرابلسي هو شاب عشرينيّ هاوي تصوير وطالب إخراج وإنتاج سينمائي وتلفزيوني في الجامعة اللبنانية. عاش وتربّى في مدينة صور جنوبا، نزح إلى بيروت. لكنّه من أصول طرابلسية. وقد حاول نقل نفوسه إلى صور: “حبّي للتصوير والفنون البصرية بدأ من الجنوب، فقد تعلّمت التصوير في شوارع صور والجوار الجنوبي”.

حين سألته عن علاقته بالجنوب وعما إذا كان يُفضل العيش في الجنوب أو في بيروت، أجاب: “بالطبع أفضّل العيش في بيروت، فهنا فرص العمل في مجال السينما والتلفزيون وهنا الجامعة اللبنانية، وأشعر أنّ الجنوب ليس بيئة حاضنة لتقبّل هواياتي وطموحاتي”.

“نوعاً ما صور هي مصدر إلهام لي. لكنّ مصادري الأنقى هي الكتب والأفلام. ولا أنسى أنّ صوري الأولى كانت في صور. والطريف أنّني حين سألته إن كان يفكر بالعيش في الجنوب إلى الأبد، فردّ بجزم: “لا أريد العيش في لبنان كلّه أصلا”.
شاب آخر يشبهني أكثر في علاقته بالجنوب هو عاصم بزي، ابن العشرين عاما. يدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة اللبنانية – الأميركية. يكتب نصوصا وقصائد شعرية، هو الذي يتحدّر والده من بلدة بنت جبيل.

حين تسأله عن علاقته بالجنوب يبتسم بخبث ويقول: “لا علاقة لي بالجنوب، وأعلم أنّني لن أتقرّب من تلك الأراضي”. يقولها بهدوء لكن بغضب مكتوم لا يمكن إثباته. ويضيف: “الجنوب أحيانا هو اللحمة النيئة والكبّة”.

بيني وبين أحمد وبين عاصم تقارب في مكان واحد: علاقة ملتبسة بالجنوب ورغبة في الإبداع. يروي عاصم: “أذكر مرّة، منذ سنوات عدّة وكنت مراهقا، أنّني كنت في بنت جبيل مع والدي والعائلة. وكنا نجتمع حول سفرة من أكل بلدي وشاي، وفجأة رفعت فنجان وقلت: كأسكم، فنظر الجميع تقريبا نحوي باستغراب شديد، كما لو أنّهم ينهرونني بنظراتهم، ما جعلني أشعر بعدم الراحة”. وهذه الحادثة لا ينساها عاصم. كما لو أنّها رسمت خطّ تماس في ذاكرته بينه وبين بنت جبيل، وبينه وبين أهل القرية.

ما يجمعني بعاصم وأحمد غير الإنتماء الجنوبي على الهوية، أننا جزء من حركة ثقافية، فنية، شبابية في القرن الواحد والعشرين، وطبعاً جزء من مجتمعٍ مُصغر يراه الشعب اللبناني كحركة تمرّد غير أخلاقية ومعارضة. ما يجعلنا نبتعد بعض الشيء عن مجتمع الجنوب المحافظ إلى حدٍ ما. لكن يمكنني أن أقول إنّنا لو استلمنا سلطةً في يومٍ من الأيام من الممكن أن ننهي كلّ الصراعات الأهلية والطائفية… فليس لنا خلاص سوى بالسلام، وسلاحنا هو الفنّ!

السابق
عن دفتردار ومنير الربيع: حزب الله يحارب خصومه بأقلامهم
التالي
من قتل الضابط الفتحاوي جميل زيدان بمخيم عين الحلوة؟