تحرير الوعي من شرعية الاستبداد باسم الدين أو الغيب

العلامة محمد حسن الامين
ما من سلطة استبدادية، وما من سلطة مستبدة، سواء كانت سلطة سياسية، أم معرفية، أو اجتماعية، أم على كل المستويات، ما من سلطة إلا وتحاول أن تستمد مبرراً لاستبدادها من مصدر غيبي ما. وسيبقى الإنسان مصادراً بطريقة لا يمكن أن يحقق فيها أيّ قفزة أو أي توجه حقيقي، نحو التحديث والتطور وامتلاك القرار بدون تحرير هذا الوعي، أو تحرير جزء من هذا الوعي المكبَّل بشرعية الاستبداد.

الإنسان محكوم بالحرية، بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً، وفي الوقت نفسه ألا يكون حراً. فمجرد أن يكون إنساناً فذلك يعني  أنّه حرّ، ويعني أنّه أمام معضلة الحرية.

قد ترون أني في هذا الرأي أتوافق، إلى حد كبير، مع تيار أساسي في الفلسفة الوجودية، يرى أن الحرية هي قدر الإنسان ومأساته في آن. لكأنّ الوجودية حين قالت بهذه النظرية كانت تصدر أيضاً عن الفكر الديني الإسلامي، وهذه قراءة له بوصفي من المتخصصين في الدراسات الدينية الإسلامية:

إنّ مصدر الحرية في الفكر الديني عموماً هو الهيمنة الإلهية على الكون والحياة والإنسان، وما من فكر ديني يمكن اعتباره أصيلاً وحقيقياً، ما لم يتضمن هذا الإيمان الكامل بأنَّ الهيمنة على الكون، والإنسان، والحياة، والطبيعة، والمستقبل، والغيب هو لله سبحانه وتعالى. وعندما لا نرى هذه الهيمنة سوف نقع في إشكالية نقصان الحرية عند الإنسان.

إن الوجه الآخر للإيمان بالهيمنة الإلهية على الكون هو الإيمان بحرية الإنسان وفي خلق الإنسان حراً، لكي يختار طريقة حياته وسلوكه ومصيره، ويصنع وجوده. وتلك حكمة إلهية من هذا الخلق، ونحن لا يمكن أن نتصور، ولو للحظة، أن يكون الإنسان كائناً غير مختار، وبالتالي أن يكون في الوقت نفسه معبراً عن الغاية الأسمى للخلق. وإذا كان الإنسان المختار هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يختار ضد “الله” سبحانه وتعالى، فهذا يعني أن ثمة حكمة إلهية في خلق هذا الإنسان مختاراً، ويستطيع باختياره أن يتجاوز حتى إرادة الله التشريعية، وهنا أود أن أميّز هذا المصطلح في الفقه، أو في أصول الفقه الإسلامي، حيث نلتقي بمصطلح “الإرادة التكوينية الإلهية”، وبمصطلح “الإرادة التشريعية”.

والإرادة التكوينية تصدر عن الله سبحانه وتعالى، بصيغة: كن. فيقول للشيء كن فيكون، أي أن المراد لا يختلّف عن الإرادة، أما في شأن الإنسان واختياراته، فلم تكن إرادة الله سبحانه تكوينية. فحيث أراد للإنسان أن يعمر الكون والحياة، وأن يحقق الغايات الكبيرة من خلق الله له، فقد كان أمره تشريعياً، أي قال له إن الفضائل موجودة هنا والرذائل موجودة هنا، ولكن لم يجبره أي لم يكرهه، على أن يسير باتجاه طريق الفضائل والخير، وترك له الخيار. والإنسان قادر على أن يختار، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ باختيار الإنسان ما دام يملك هذه الحرية، ويملك هذا الأصل الأساسي في تكوينه، وبالتالي فإنّ حرية الإنسان، في المفهوم الديني، هي أسبق بكثير من أي صفة أو ميزة أخرى لهذا الإنسان.

ومن هنا، أي من هذا المنطلق، وهو منطلق حرية أو أصالة حرية الإنسان في الدين، أردت أن أتوقف عنده، لأننا لاحظنا عبر التاريخ الإنساني، سواء في تاريخ الأديان، أو تاريخ السياسات، أو تاريخ الاجتماع السياسي، لاحظنا أنّه كلما أريد الاعتداء على حرية الإنسان أو مصادرتها أو تقليصها، كان هناك نوع من اللجوء إلى الدين نفسه للاستعانة به من أجل تقليص حرية الإنسان بوصفه كائناً إنسانياً، وبوصفه فرداً في المجتمع. أنا أريد دائماً أن أسحب من أيدي هؤلاء فرصة مصادرة حرية الإنسان باسم الدين، وباسم التعاليم السماوية.

في هذا المجال أستطرد لأعلن: أنّ قائلاً قد يقول بأنّ موضوع الحريات وعلاقتها بالدين هو موضوع تاريخي لا علاقة له بما نشهده حالياً في عصرنا الحاضر وعلى مستوى المنطقة العربية والإسلامية.. لا علاقة له بموضوع الدين. إلا أنني، وأنا أستمع إلى مثل هذا الاعتراض، أريد أن أقول إنّه ما من سلطة استبدادية، وما من سلطة مستبدة، سواء كانت سلطة سياسية، أم معرفية، أو اجتماعية، أم على كل المستويات، ما من سلطة إلا وتحاول أن تستمد مبرراً لاستبدادها من مصدر غيبي ما.

صحيح أن النُّظُم القائمة في المنطقة العربية الإسلامية ليست نظماً دينية، وهي في ظاهرها أو في شكلها القانوني علمانية، لا تستند في تشريعها إلى نظام إسلامي بل إلى أنظمة وضعية. إلا أن هذه النظم السياسية وما يتفرع عنها، من نظم في المجتمع، استطاعت رغم علمانيتها، أي عدم استنادها إلى الشرعية الدينية، استطاعت أن تتفلّت من المستلزمات العلمانية، التي يجب أن تؤول إلى ترسيخ حرية الإنسان، وإلى الديمقراطية.

لا شك في أن أساس النظام العلماني يقوم على اختيار الكائن البشري، وأن شرعية السلطة مستمدة من اختياره لها، وهذه الأنظمة الاستبدادية هي علمانية من حيث رفضها للدين كمصدر للشريعة، ولكنها من حيث ممارساتها الاستبدادية تختلف مع هذا الأساس العلماني. وهي، إذ تمارس الاستبداد عبر تقليصها مساحة الحرية الإنسانية، فإنّها تستند، إلى أساس غيبي أسميه “تاريخ السلطة في ماضينا العربي الإسلامي”. إذ دُمغت هذه السلطة بطابع الاستبداد، وقد كان لهذا الاستبداد أحياناً شرعيته الدينية، بمعنى شرعيته القائمة على تأليف تصور ديني يمنح الشرعية للاستبداد، على أن السلطات العلمانية في عصرنا الراهن استطاعت أن تتواصل مع واقع الاستبداد، ولكن دون أن تحفل كثيراً بإيجاد المبررات الدينية له.

لذا نرى ضرورة تحرير الثقافة والقيم الاجتماعية من بقايا شرعية الاستبداد، التي هي عبارة عن مزيج من محاولة توظيف الدين أو توظيف القيم القبلية، والقيم الاجتماعية المتخلفة لترسيخ الاستبداد.

يجب أن يكون لدينا هاجس تحرير هذه البنية العقلية من هذا المزيج على صعيد النخبة أولاً والمجتمع ثانياً. وهذا المزيج أسميه “رواسب شرعية الاستبداد”. وهي معركة تحرير لا يتصور المرء مدى أهميتها وانعكاساتها على قيام بنية فكرية واجتماعية قادرة على أن تتعامل مع مفهوم الحرية، وقادرة على أن ترى في الحرية حقاً مستلباً وضائعاً، وأن تؤكد قيمة الإنسان في المجتمع أو في التاريخ، أو في أي موقع من المواقع، لا يمكن أن تستكمل بدون هذا القدر الأعلى من الحرية، الذي ما زال الإنسان محروماً منه في عالمنا كله بشكل أساسي، ولكن بصورة خاصة في هذا العالم الذي نحن معنيون به عناية خاصة، أقصد عالمنا العربي والإسلامي، واللبناني أيضاً.

وسيبقى الإنسان مصادراً بطريقة لا يمكن أن يحقق فيها أيّ قفزة أو أي توجه حقيقي، نحو التحديث والتطور وامتلاك القرار بدون تحرير هذا الوعي، أو تحرير جزء من هذا الوعي المكبَّل بشرعية الاستبداد.

أكتفي كمقدمة بهذا القدر من إضاءة الجوانب الواسعة لموضوع الحرية، على أن يتاح لنا أن نتكلم عليها في نقاط تفصيلية.

السابق
زيادة مستوطني الضفة 4،2 في المئة
التالي
القبض على سوريين حاولا خطف وسلب موظفة