كيف نتجنب خطر المقاطعة

إثر خطاب وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مؤتمر ميونيخ للأمن في الأول من شباط 2014، سئل إن كان يؤمن بقدرته على إبرام اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. وبدلا من الرد مباشرة على السؤال، أجاب كيري بأنه يأمل ويعمل جاهدا من أجل ذلك، وأضاف: “… هناك حملة تتعاظم لنزع الشرعية. الناس حساسون جدا لذلك. يتحدثون عن مقاطعات وأمور كهذه. فهل سيكون أفضل لنا جميعا مع هذه الأمور؟” واستعرض باختصار الآثار السلبية التي ستكون قاسية على الطرفين إن فشلت المباحثات. وأشعلت ملاحظته هذه عاصفة انتقادات في إسرائيل.. ووصف وزير الشؤون الاستراتيجية، يوفال شتاينتس أقوال كيري بأنها “مهينة، غير منطقية وغير محتملة”. أما وزير الاقتصاد نفتالي بينت فقال: “نحن ننتظر من أصدقائنا في العالم الوقوف إلى جانبنا في مواجهة محاولات المقاطعة المعادية للسامية ضد إسرائيل، وليس أن يكونوا بوقا لها”.

ليس واضحا سبب اختيار منتقديه تفسير تحذيراته على أنها تهديد مباشر، خصوصا إثر واقع قيام وزير المالية، يائير لبيد، بنشر تحذير مشابه قبل أيام معدودة فقط من خطاب كيري في ميونيخ. وفي كل حال، يمكن أن نتوقع من القادة القوميين المسؤولين أن يكرسوا اهتماما لجدية تحليل كيري أكثر من دوافعه المحتملة.

وكان رد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو أكثر اتزانا. وبحسب رأيه، “فإن أي ضغط لن يدفعني للتنازل عن المصالح الحيوية لدولة إسرائيل، وعلى رأسها أمن مواطني إسرائيل”. صحيح أن هذا الكلام يدخل الأمر إلى سياق معين، لكنه لا يزال يتهرب من مسألتين. الأولى تتصل بفورية الخطر وحيوية المصالح، خصوصا الاقتصادية، الموجودة ظاهريا تحت الخطر بفضل نشاطات جماعات المقاطعة الدولية BDS التي تشجع المقاطعة، وسحب الاستثمارات والعقوبات. والمسألة الثانية تتعلق بحيوية المصالح الأمنية التي ستتعرض للخطر نتيجة الجهود لصد خطر المقاطعة. فقد تقدير واع لهذين الخطرين وللتبادلية بينهما يمكنه أن ينتج رد فعل مبررا أكثر تجاه هذه المعضلة، التي تعاظمت في أعقاب كلام كيري.

وليس هناك رد بديهي على المسألة الأولى. فمن الواضح أن حجم المقاطعات الاقتصادية (والمقاطعات الأخرى في مجالات التربية والثقافة) ازداد في الشهور الأخيرة. في كانون الثاني 2014 فقط قررت أكبر شركة في هولندا لإدارة صناديق التقاعد سحب استثماراتها من البنوك الخمسة الكبرى في إسرائيل، ومنعت وزارة المالية النرويجية شراء أسهم أكبر شركتي بناء في إسرائيل لصالح صندوق التقاعد الحكومي، كما أن البنك الاكبر في الدانمارك أدرج بنك هبوعليم على قائمة الشركات التي لن يستثمر أمواله فيها. ومع ذلك فإن الصورة من زاوية رؤية إسرائيلية ليست قاطعة تماما. فتقريبا فور وقوع هذه التطورات، أعلن عملاق الصناعات الجوية الأميركية، شركة لوكهيد – مارتين خططا لمشاريع بحث وتطوير مشترك مع EMC، وهي شركة أميركية لتكنولوجيات الخزين، في مركز سيقام في بئر السبع. كذلك أعربت شركة Haier، الصينية المتخصصة في إنتاج الأجهزة الألكترونية والكهربائية البيتية، أنها تعد لإنشاء مركز تطوير في إسرائيل. واشترى مجمع وودسايد، الأسترالي المتخصص في مجال الطاقة، قسما من حقل غاز بحري تملكه شراكة من ثلاث شركات إسرائيلية.

هذه الإشارات المتناقضة تسمح بتطوير توقعات مختلفة بشأن الميول في المستقبل، وفي كل حال، فإن هذه التوقعات تتأثر بقدر كبير بالمصالح الشخصية والميول السياسية. وعلى سبيل المثال، فإن استطلاعا أجري في إطار مشروع “مقياس السلام” يظهر أن 42 في المئة من المستطلعين ذوي الميول اليمينية، يعتقدون أنه ستفرض عقوبات خطيرة على إسرائيل، مقارنة بـ 71 في المئة من المستطلعين المنتمين إلى اليسار. كذلك يظهر من الاستطلاع أن 61 في المئة من المستطلعين المنتمين لليمين يؤمنون أن إسرائيل بوسعها تحمل عقوبات من هذا النوع من دون أن تغير سياستها، مقابل 32 في المئة من اليسار يؤمنون بذلك. وبنظرة أولية يبدو أن هذه المساعي لا تستقيم مع واقع أن ردود الفعل الأشد هيستيرية على أقوال كيري جاءت تحديدا من الجانب اليميني للخريطة السياسية، والتي تبدو ظاهريا مطمئنة تجاه احتمالات فرض العقوبات وقدرة إسرائيل على مواجهتها. والتفسير المنطقي المحتمل لهذا التناقض هو أن رجال اليمين يعارضون فكرة وجود أي صلة مهما كانت بين العقاب الاقتصادي لإسرائيل وبين السياسات التي يعارضون تغييرها، وأنهم يراهنون على نوع من “الخلاص غير المتوقع”، الذي سيحمي عند حلول الساعة إسرائيل من كل عواقب هذا العقاب.

ومع ذلك، يصعب الاختلاف حول واقع أن إسرائيل عرضة جدا لمقاطعات من هذا النوع، خصوصا من جانب أوروبا، والتي كما أظهرت الأمثلة الآنفة، أنها المصدر الأشد توقعا لها. في نهاية المطاف، اقتصاد إسرائيل، مواد التصدير، ترتبط بأوروبا كهدف لثلث صادراتها وكمصدر مركزي للاستثمارات الخارجية المباشرة التي تحرك قطاع الهايتيك فيها.

وبديهي أنه ليس بالوسع تحديد حجم وشدة العقوبات الاقتصادية المستقبلية، ولذلك يصعب تحديد أثرها الدقيق على التشغيل وواردات الدولة. ولكن، سيكون انعداما للمسؤولية من جانب القادة الإسرائيليين أن يتجاهلوا هذا التهديد واعتباره كلا شيء، أو التظاهر بأن بالوسع معالجته فقط عن طريق القيام بجولات دعائية وأو إدانة الجهل، وانعدام الأخلاقية، والنفاق أو الدافع المعادي للسامية (بقدر ما يمكن لكل هذه العوامل أن تقف خلف مساعي نشطاء BDS غير الحكوميين).

فما الذي بالوسع فعله من أجل التعامل مع المشكلة من دون تعريض “أمن مواطني إسرائيل” للخطر؟ بديهي أن السلام الشامل مع الفلسطينيين يلغي ذلك تقريبا بشكل مؤكد، أو على الأقل يحيد كل محاولة إضافية لنزع الشرعية عن إسرائيل بأي طريقة، اقتصاديا أو غيرها. ومع ذلك، فإن الفرصة لتحقيق ذلك ترتبط بالفلسطينيين لا أقل من الإسرائيليين، وهي حقيقة يتجاهلها الكثير من منتقدي إسرائيل. ولكن إلى أن يتم التجسير على الخلافات بين الطرفين ويغدو حل النزاع محتملا، فإن على إسرائيل أن تدرس المبادرات الأخرى التي ستعينها في منع أو تلطيف خطر المقاطعات. ولحسن حظها، فإن ما يبدو ظاهريا كمعزز دعم شعبي للعقوبات ليس قائما في أساس دوافع النواة الصلبة لأعضاء BDS. وبؤرة المشكلة ليست في قضية مثل “دولة ديموقراطية ذات طابع يهودي خاص”، بحسب وصف كيري في ميونيخ، أو في أن إسرائيل تستخدم القوة للدفاع عن نفسها، ولا حتى باستمرار الاحتلال ذاته، وإنما تحديدا في الرؤية بأن إسرائيل لا تظهر التزاما تاما بحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بالطرق السلمية، كما يظهر في البعد البادي جدا لسلوكياتها خلف الخط الأخضر: البناء في المستوطنات.

وقلة قليلة جدا من ذوي الأهمية من المقاطعين يطالبون إسرائيل بأن تتنكر لطابعها اليهودي، وتنسحب بشكل أحادي من المناطق المحتلة أو حتى تفكيك مستوطنات قائمة حتى قبل التوصل لاتفاق. ومعظم الخطابات والفعاليات تركز على قضية واحدة: استمرار البناء في المستوطنات. والاستنتاج المنطقي هو أن السبيل الأشد ضمانا لإحباط المخاطر ذات الاحتمال الخطير على أمن إسرائيل الاقتصادي: تجميد كل بناء جديد في المستوطنات.

وفعل كهذا ليس ضمانة بأن المفاوضات ستتقدم نحو اتفاق يوفر الرد على الاحتياجات الحيوية لإسرائيل، أو حتى لأن تستمر. وبالإجمال، فإن تجميدا سابقا استمر عشرة شهور قاد أبا مازن إلى طاولة المفاوضات فقط في الشهر العاشر، وحتى حينها، فقط نتيجة ضغط أميركي لم يتوقف. وهكذا ليس ثمة ما يضمن أن التجميد سيوفر لإسرائيل حصانة شاملة ضد أنواع أخرى من الدعاوى، رغم أنها ستضع الحكومة في موقع أفضل لصد مثل هذه الدعاوى. إن تجميد الاستيطان يحرم نشطاء BDS من الرافعة الأنجع التي يستخدمونها لتحريك دعم حكومي وشعبي واسع لأهدافهم، خصوصا في أوروبا.

ومفهوم أن خطوة من هذا القبيل، وهي إشكالية جدا من ناحية سياسية، يمكن أن ترفض بدعوى أنها تشكل تخليا عن التزام رئيس الحكومة بالحفاظ على المصالح الحيوية لإسرائيل في مواجهة الضغوط، حتى قبل تجسيد هذه الضغوط. لكن، من أجل التوضيح بشكل مقنع لماذا من الصواب أن تتمسك بموقفها، عليها أن توضح لماذا أن استمرار البناء في المستوطنات حيوي لأمن مواطني إسرائيل.

السابق
مازن معضم: لم أعامل بإنصاف
التالي
لهذه الأسباب «فيسبوك» إشترت كل مستخدم لـ«واتس آب» بـ42$