معين أبو ضهر الفتى «الناري» إبن الـ «بستنجي» والشيوعية… ومُفجَّر السفارة الإيرانية

الاسير ومعين ابو ظهر

عندما قررت كلثوم عموري إرسال ابنها معين أبو ضهر إلى السويد، لكي يلتحق بإخوته الثلاثة هناك، كان الفتى لم يبلغ السادسة عشرة من عمره بعد. ووالدة معين، كلثوم، هي من قرر وليس والده، ذاك أن إخوة معين هناك هم أبناؤها من زواجها الأول، من ابن عمها الجنوبي الشيعي كحالها والذي انفصلت عنه، هي ابنة العقد السادس، والتي نشأت هي وأشقاؤها وشقيقاتها في منظمة العمل الشيوعي.

لكن معين على ما يقول والده لم يتمكن من البقاء في السويد لأكثر من عام ونصف، عمل خلالها في مطاعم وشركات بناء. أما سبب عودته وفق والده فهو أن «أشقاءه حاربوه لأنه سنّي»، فمعين، والكلام للوالد أيضاً «تعارك وتضارب معهم وغادر منزلهم وصار ينام خارج المنزل».

لا يعرف الوالد السنة التي ذهب فيها معين إلى السويد. كان عمره 16 عاماً وهو من مواليد عام 1992. إذاً، من المفترض أن يكون معين غادر إلى السويد في عام 2008، وعندما غادر كان «شديد الالتزام دينياً، وكان مواظباً على الصلاة بفعل احتضان عمه الحاج له». لكن تدينه وفق والده وصديق والده أبو معروف، لم يكن تديناً سياسياً، إذ إن عمه الذي زوده به، لم ينتمِ يوماً إلى حزب. ثم إن والد معين لا يصلي، ويشير إلى أنه يحب أن يشرب كأساً بين وقت وآخر، وأمه لم تكن إلى حين مقتله محجبة.

لكن عودة معين من السويد، بصفتها إخفاقاً في التحول إلى صيداوي مغترب، لم تكن الإخفاق الأول في حياة الفتى، فقد سبقها إخفاقات مدرسية، وتبعها إخفاقات من أنواع أخرى. وبين هذه الإخفاقات كان لبنان يرتج بفعل أزماته التي بدأت باغتيال الحريري ولم تنته باقتحام مسجد شيخ معين أحمد الأسير في صيدا.

تشابه الأسماء

كان على عدنان أبو ضهر، والد انتحاري السفارة الإيرانية في بيروت معين، أن يطلب شفاعة مضاعفة من وجيه عائلة أبو ضهر على فعلة ابنه، فإضافة إلى ما خلفته فعلة الصيداوي بعائلته الصغرى والكبرى، أربكت العائلة مرة ثانية لمصادفة غير غريبة عن صيدا تتمثل في أن اسم الشاب الانتحاري هو اسم وجيه العائلة وزعيمها نفسه، أي معين أبو ضهر، صاحب المستشفى الشهير في المدينة ونجل الطبيب لبيب الذي لطالما كان من وجهاء المدينة وممثلاً إحدى أكبر عائلتها.

قال عدنان إن «الأستاذ معين» كان حانقاً عشية إعلان اسم ابنه كمنفذ للعملية الانتحارية التي استهدفت السفارة الإيرانية في بيروت صبيحة التاسع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013، فـ «للأستاذ علاقات وطيدة تضررت بفعل تشابه الأسماء»، ومستشفاه يستقبل يومياً عشرات المرضى من الجنوبيين الشيعة، ذاك أنهم يُفضلونه على مستشفى حمود بفعل القرابة السياسية التي تربط صاحبها بحركة أمل و «حزب الله».

تنادت العائلة في ذلك اليوم إلى منزل وجيهها وحضر والد الانتحاري وأعمامه، وأصدرت العائلة بياناً تبرأت فيه من فعلة ابنها وأدانتها.

لكن قصة معين، الانتحاري، على لسان والده وألسنة بعض من يعرفه في الحي، لا تستوي على قوام منسجم، فهو وفق واحد من أصدقاء الحي «يخاف كثيراً… لكنه حشوري ولا يُقدّر العواقب، وفي إحدى المشاجرات في الحي أقدم على كسر يد فتى من عمره»، وهو وفق والده «ناري وما يطلبه يريده سريعاً، وجسمه مثل النار… نار وطالعة». لكن والده يعود ويُذكر بهدوئه واستقامته. لكن الروايات عنه تعرج على ملمح في شخصيته متقطع لكنه مُلاحظ من أكثر من شخص، وهو وحدته التي كانت تستدرّ بعض العطف عليه. فهو وفق رجل في الحي ابن وحيد لزواج بين رجل وامرأة لكل واحد منهما أبناء من زواج سابق. وهو أخ لتسعة إخوة لا شقيق له بينهم. خمسة من والده وأربعة من أمه. ويقول رجل في الحي إن طفولة معين لم تكن بائسة، على رغم تواضع حال أهله، فـ «والده كان يشتري رضى والدته عبر عدم رد طلبات ابنها الصغير»، وكان رجال في الحي يُنبهونه إلى أن ذلك سيُشعر الفتى بأنه لا يحتاج إلى عمل كي يؤمن مصروفه.

لم يبلغ معين «السلفية الجهادية» في التزامه الديني، وحتى الشريط الذي ظهر فيه معلناً أنه هو من نفذ عملية السفارة الإيرانية، والذي زُينت الصورة فيه بالكثير من أكسسوارات «قاعدية»، كان فيه معين حليقاً ومُستعيناً بذاكرة «سلفية» حديثة التشكل ومضطربة العبارة. وكان كلما تعثّر في استحضار العبارات الدينية استعان بغضبه من «حزب الله» فتقوى عبارته وتتماسك جملته وينتفض جسمه منسجماً مع يده الغاضبة وإصبعه المُهددة.

وواضح أن معين عاش حتى يوم انتحاره في كنف أم غير محجبة وأب غير ملتزم دينياً ولا يُمانع في إشهاره شرب «الويسكي»، وهو لم يُطلق لحيته على نحو ما يُطلقها السلفيون. وهذه كلها ليست من علامات «التسلف». ثم إن الروايات المتقطعة عنه، هي وإن كانت قليلة الانسجام والتماسك، لا تفضي بأي حال من الأحوال سوى إلى أن الشاب كان غضوباً ومضطرباً، إنما لم يكن سلفياً ولا تكفيرياً.

إنه ابن «الغريبة» وأخ «الغرباء»، المقيم في حي بستان الكبير شمال مدينة صيدا. وغربة الوالدة والإخوة في صيدا لم تتصل بمضمونها الطائفي، إلا في السنوات الأخيرة. كانت اضطراباً نوعياً، ذاك أن الصيداوية مزاج أكثر منها مذهباً. وأم معين الشيعية وابنة بلدة تفاحتا الجنوبية غير البعيدة من صيدا تزوجت والده أصلاً في سياق من الوظائف التبادلية التي كانت تؤديها المدينة لمحيطها.

هو «نار وطالعة» على ما يصفه والده، وهو «حشوري» على ما قال جاره، لكنه «وديع وطيب القلب»! هذه أوصاف لطالما يسمعها المرء في أحياء الفقراء عن شبانها، لكنها في حالة معين الانتحاري، تنطوي على يُتمٍ ما يشعر متعقب سيرة الشاب في صيدا بأنه جزء من صورة الشاب في كلام أبناء حيه عنه.

وعلينا أيضاً أن نلاحظ هنا أن الفتية والشبان أبناء العائلات المختلطة طائفياً، غير محصنين من التطرف في لحظات صعود المشاعر الطائفية، لا بل إن الملاحظة قد تفضي إلى عكس هذا التوقع. ففي البيئات الفقيرة يشكل الاختلاط نوعاً من الفصام المُولد مزيداً من العنف. فإضافة إلى أحمد الأسير نفسه الذي طالما ذكر أن والدته شيعية، يمكن أن نُلاحظ أن محمد ابن شقيق الفنان المعتزل فضل شاكر، وهو ابن سيدة شيعية من جنوب لبنان، كان من أكثر مناصري أحمد الأسير تطرفاً، وهو كان له دور في دفع عمه إلى اعتزال الفن، وبقي يُقاتل في مسجد الأسير في عبرا إلى أن قُتل. كما أن مؤذن مسجد بلال الشيخ أحمد الحريري (أبو هريرة) الذي قتل أيضاً أثناء المعارك في المسجد، نشأ وتربى عند خالاته المتزوجات برجال شيعة في منطقة النبطية بعد أن انفصل والداه، ناهيك عن مرافق الأسير وآخرين. وعلينا أن نلاحظ أيضاً أن انتحاري السفارة الإيرانية الثاني عدنان المحمد هو فلسطيني نشأ في تجمع سكني للاجئين الفلسطينيين في محيط بلدة البابلية الجنوبية، وهو ما عرضه وعرض عائلته لعيش واختلاط في كنف شيعي أوسع. ونقل صحافيون زاروا منزل أهله أن والده وضع صورة لأمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله على جدار منزله.

كوابح العنف

هذا في حين يُمكن المرء أن يُلاحظ أن الأسيريين من أبناء العائلات غير المختلطة هم أكثرهم تردداً في الذهاب في العنف إلى مستوياته القصوى، وهم جاؤوا إلى «الأسيرية» من ممارسات مسجدية مدينية تقليدية لطالما شهدتها العائلة الصيداوية المُقفلة. هذه الممارسات الطقسية لطالما كانت امتداداً لجوهر نفسي تقع العائلة في صلب طموحاته، فتُخرج الوالد إلى العمل من الصباح إلى المساء، وتجعل من الأم مُنشِئة وزارعة في وجدان الفتى مشاعر تختلط فيها الأمومة بالذكورة، وينجم عن هذه التنشئة فتية وشبان لا يخلو وجدانهم من جوهر أنثوني كابح للعنف، أو مُخفف منه على الأرجح.

عدنان، والد انتحاري السفارة الإيرانية، من عائلة تعمل في البساتين، وهو وإن كان سائق «بيك آب» كما هي حال أشقائه الستة، أعمام معين، لكن مهنته هذه هي امتداد لمهنة الأهل الأولى في بساتين الحمضيات، فالـ «بيك آب» هو وسيلة نقل الحمضيات بعد قطفها، وعدنان الذي راح ينقل «كل شيء» في بيك آب «ه» كان بدأ عمله في نقل الحمضيات. و «بستنجية» صيدا خرجوا بفعل مهنتهم عن نسق صيداوي من التبادلات وتعرضوا لهواء غير صيداوي أخرجهم في الكثير من الأحيان من سور المدينة غير المحكم. فأقاموا في منازل متفرقة وموحشة داخل البساتين الشديدة الازدحام بالأشجار، والواقعة على أطراف صيدا، اقتنوا كلاباً شرسة وكانوا غرباء خارج بساتينهم.

لم يولد معين في بستان، فالشاب كان ثمرة ما أعقب تلاشي «البستنة» كمهنة وكمزاج. والده لم يعد بستانياً، وصار سائق حافلة صغيرة، ومن هذه المهنة تعرف إلى والدته حيث كان يقطر مطعماً متجولاً في حافلته يبيع فيه السندويشات الرخيصة على مدخل حسبة صيدا (سوق الخضار بالجملة). وهذه كلها علامات تصدع أصابت المهن الأولى للصيداويين، وأفضت بـ «ابن أبو ضهر» إلى لقاء بـ «غريبة» على مدخل الحسبة. وشابت هذا النوع من الاختلاط على أطراف المجتمع الصيداوي، مستويات متفاوتة من الاضطراب الذي كان خارج الضبط. فصيدا مختلطة إلى حد لم تشهده مدينة ومنطقة لبنانية، وكما أن الاختلاط هو ثمرة اشتـراك في عمل ومصالح وعلاقات، هو أيضاً اختلاط مولد للعنف وللاضطراب.

جار معين، أبو معروف وهو من وجهاء الحي، قال إنه لا يصدق أن معين فعلها، «ما عندو هالقلب القوي»، أما والده فسأل عن أشلاء جثة ابنه التي لم تُسلم له. لكن النفي هنا هو حيرة وخوف، ذاك أن ما أقدم عليه الفتى أصاب الصيداويين بذهول. ثم إن الرواية على لسان الوالد وعلى لسان صديقه لا تستقيم في سياق منسجم، فمعين وفق والده «هادئ» و«ناري» في الوقت نفسه. وبينما قال الوالد إن ابنه لم يُقاتل خلال معركة مسجد بلال في عبرا، وإنه لزم المنزل في ذلك الوقت، كشف معين في شريط الفيديو الذي بُث قبل أقل من أسبوعين وكان سُجل قبل تنفيذه العملية، أنه كان يُقاتل في المسجد حين شن الجيش اللبناني الهجوم على المسجد، وقال في الشريط إنه شاهد بأم عينه مقاتلي «حزب الله» يرفعون راياتهم بمساعدة الجيش.

ويبدو أن رواية الوالد غير الدقيقة وغير المحكمة عن ابنه هي امتداد لعلاقة بين الابن والوالد لا يملك الأخير كثيراً من مفاتيحها. فبعد أن عاد معين من السويد، عاد وسافر إلى الدنمارك وعمل شهوراً أخرى في المطاعم هناك، وعاد إلى لبنان. وكان ذلك قبل الهجوم على مسجد بلال بن رباح بحوالى ستة أشهر، كان خلالها معين مواظباً على الصلاة في مسجد البزري في البستان الكبير وكان يؤم المصلين في ذلك المسجد الشيخ الشاب يوسف حنينة وهو من أتباع الأسير ومعتقل اليوم لدى الجيش اللبناني.

والأشهر الستة التي فصلت بين عودة معين من الدنمارك ومعركة مسجد بلال بن رباح في صيدا شهدت الكثير من الوقائع الطائفية التي شحنت شبيبة مساجد الأسير في صيدا، ومن بينهم معين طبعاً. فقد قُتل في هذه الفترة صديقا معين لبنان العزي وعلي سمهون في اشتباك مع «سرايا المقاومة» التابعة لـ «حزب الله» أثناء محاولتهما نزع علم لـ «حزب الله» رُفع في منطقة تعمير عين الحلوة على مدخل المخيم الفلسطيني. هذه الواقعة يؤسس عليها والد معين في عملية تحول ابنه إلى ما صار عليه من عنف وغضب. لكنه تحول ليس جوهرياً ومرتبطاً بحال الغضب التي تُرافق أحوال فتية الأحياء في لحظات التوتر الطائفي. ذاك أنه لم يترافق مع تبدل في زي معين أو في مزاجه الديني.

ثم إن الأسيرية التي كانت تتلقف هذا الغضب وتُعيد تأطيره في عملها المسجدي، لم تكن قد بلغت «السلفية» في ممارساتها ولا في اعتقاداتها. فهي بقيت شعوراً طائفياً حاداً من دون مضامين تكفيرية، وإن كانت سعت إلى ملامسة سلفية دعوية تبليغية.

وحادثة مقتل العزي وسمهون بصفتها الفاجعة الأسيرية «الصغرى»، إذا ما اعتبرنا أن اقتحام المسجد هو الفاجعة «الكبرى»، والتي يحيل إليها والد معين «غضب» ابنه، تكتمل حين يشفع كلامه عنها باعتراف بأن نجله يُمكنه تقدير الواقع أكثر منه فيقول: «هو يعرف أكثر مني في شؤون الحياة، فهو سافر وخاض في الكثير من المشاكل، ويعرف بالدين أكثر مني»! وهنا يتلبس الانتحاري ضآلة والده فتتبدل أدوارهما. وهو تبدل لطالما يلحظه المرء في سير الانتحاريين وسير عائلات «الشهداء» من الجماعات الدينية.

يقول عدنان إنه وبعد معركة مسجد بلال بن رباح بحوالى 20 يوماً، قرر معين السفر إلى الكويت للعمل مع شقيقه هناك. وبعد أسابيع قليلة من سفره اتصل به من هاتف سوري وأبلغه بأنه يعمل في سورية. لا يُجيب عدنان حين تسأله عن قصة السفر إلى الكويت، وعن عدم تدقيقه مع نجله الثاني هناك بقصة توجه معين إليه. فقط قال إنه لا يسأل أحداً من أولاده عن شيء. وعـندما اتصل به مـعيـن من سـورية اشـتـرط الأخير، حتى لا يقطع المكالمة، ألا يسأله أين هو وماذا يعمل. أمضى في سورية 4 أشهر وعشرة أيام. وبعدها نفذ العملية الانتحارية.

السابق
صقر: نضال المغير احد الانتحاريين بعد ظهور نتائج فحوص DNA
التالي
عين قانا شيعت ابنها عباس