الإرهاب يهجّر 250 يتيماً

كانت آمنة ترتجف. وقفت ابنة العشر سنوات على الأنقاض في مدخل “مؤسسة المجاد” التابعة لـ”دار الأيتام الإسلامية” في بئر حسن، تنتظر عائلتها لاصطحابها. تمسح بيديها الطريتين ما علق من دموعها بين هدبيها، وتسأل عن بقية رفاقها.
كانت آمنة في قاعة التدريس عندما دوى الانفجاران الأول فالثاني، وانهار معهما زجاج الواجهة والسقف المستعار بألواحه وأشرطة الكهرباء. لم تسمع انفجاراً من قبل، فكيف أن تكون في قلبه. تريد العودة إلى البيت: “ما بدي شي تاني”.
من حول آمنة تحمل مربيات رضع الدار وأطفال الحضانة الباكين. عاملات اجتماعيات يساعدن الأطفال من ذوي الإعاقات، فيما ينقل المسعفون الجرحى الصغار. كثير هذا الدم والخوف على كل هؤلاء الأطفال. 250 طفلاً تحتضنهم المؤسسة. وهناك بالتحديد على بعد خمسة أمتار منهم اختار الانتحاري أن يضغط على زر الموت. و”الله وحده” أنقذ أطفال الدار من القتل، ولكنه لم يحمهم من الصدمة والجراح التي أدمت 11 طفلاً من بينهم. وحدها ندوبهم النفسية، تلك التي حملتها صرخاتهم وهم في طريقهم إلى الخارج، كانت تحكي بعض وجعهم. الدار تضررت عن “بكرة أبيها”، لم يعد بيتهم هنا، تهجروا، هجرهم الإرهاب. الإرهاب نفسه انتقده المدير العام لـ”دار الأيتام الإسلامية” خالد قباني الذي قال: “ما هكذا تكون الثورات. وهذا الإرهاب، هذا الإجرام، يحصد الأبرياء والأطفال والأيتام”. قباني سارع إلى “المجاد” ليؤمن إجلاء أيتامها إلى مركز الدار الرئيسي في البربير.
وجع آخر كان هناك. وجع العائلات والأقارب الذين تهافتوا منهارين إلى المؤسسة يطمئنون على صغارهم. أهال لم تسعفهم كلماتهم. سبقتهم دموعهم فتلقفهم موظفو الدار مطمئنين “الحمد لله عندنا جراح طفيفة فحسب”، يقول الموظف الذي سجل المصابين ليبحث بينهم عن اسم طفل تأتي عائلته للاستفسار عنه.
بدا مشهد أطفال “دار الأيتام” أمس شبيهاً بذلك الذي فرضته الصواريخ والتفجيرات القريبة من “جمعية المبرات الخيرية” في الهرمل مؤخراً، وسواء قرب مدرستها أو محطة وقود الأيتام هناك. “يبدو أن حصة الأيتام من تفجيرات الانتحاريين محفوظة”، وفق والدة أحد الأطفال. الأيتام كانوا قد رسموا على وجوههم اشكالاً مختلفة استعداداً لأدوار كانوا سيلعبونها في احتفال أمس. استعدوا لكل الأدوار ولكن لم يكن مدرجاً على برنامجهم أن يكونوا الضحايا في أي من السيناريوهات الموضوعة لمشاهدهم التمثيلية.
وحصة الأطفال من انفجار الأمس لم تقتصر على أيتام “المجاد”. هناك على بعد نحو مئة متر خط نار، كان الأهالي ينتظرون استلام أبنائهم من مدرستي “الكوثر” التابعة لـ”جمعية المبرات”، و”أحمد قصير” التابعة لمؤسسات “أمل” التربوية. هناك انهار زجاج العديد من القاعات وحدثت بلبلة كبيرة. وإلى “المدرسة الأهلية” التي تقع في محيط المنطقة هرع المواطنون يصطحبون أبناءهم.
لم تكن “المستشارية الثقافية لإيران” وحدها المستهدفة. بدا أن المخططين يريدون النجاح في قتل أكبر عدد من المواطنين أيضاً. يريدون منطقة بإجراءات أمنية أضعف من إجراءات الضاحية الجنوبية يتمكنون من الوصول إليها، ومع ذلك يمكنها أن تقتل عدداً كبيراً من الناس.
عادة ما يكون الدوار المواجه لقصر رياض الصلح في منطقة تقاطع بئر حسن مع الغبيري مزدحماً بعشرات السيارات والمارة كل صباح. الدوار ومحيطه مزدحم بالمؤسسات من السفارة الإيرانية ومستشاريتها الثقافية إلى ثكنة هنري شهاب للجيش اللبناني و”مؤسسة المجاد للأيتام”، والسفارة الكويتية، إلى وزارة الزراعة، ومطاعم ومؤسسات تجارية تعج بالموظفين والرواد. وتعج المنطقة أيضاً بمنازل سياسيين وحزبيين ومستشارين لسياسيين ومسؤولين، وهو ما يجعلها منطقة مقصودة بشكل عام.
جغرافيا منجية وبرغم ازدحام المنطقة، إلا أن طبيعتها الجغرافية والهندسية المفتوحة من حول الطريق، بالإضافة إلى فضاء مستديرة رياض الصلح ساهمت في الحد من الخسائر البشرية. فالحي الميسور نسبياً مقسوم بأتوستراد يصل بين الغبيري والأوزاعي عبر بئر حسن، ولا تقل المسافة الفاصلة بين الأبنية على جانبي الطريق عن ثلاثين متراً. متسع من الجغرافيا ساهم في التخفيف من ضغط الانفجارين، وبالتالي الشهداء والجرحى.
ويشكل الموقع بحد ذاته نقطة تلاقٍ وعبور لمنعطفات نحو مناطق كثيرة، ولقاصدي الضاحية من بيروت ومحيطها ومن الشمال والجنوب. واستهدفه الانتحاريان في ساعة الذروة.. ساعة قدوم الناس إلى أشغالها وإنجاز معاملاتها.
خارج الدار كانت القيامة قد قامت ولم تقعد. من يرى الدمار الذي أصاب الأبنية وشققها، الواجهات الزجاجية والشرفات، والمحال والمؤسسات الكثيرة في المنطقة، ومعها سيارات العابرين من المارة، وتلك المركونة على جانبي الطريق، كان ليتوقع سقوط عشرات الشهداء. بدا المواطنون كمن يتفقدون أنفسهم. ينظر الجار إلى جاره ويقول له “الحمد لله بعدنا بخير”. أم وليد وصلت لتوها من بئر العبد في الضاحية وجاءت تتفقد ابنتها، العروس التي انتقلت للسكن في المنطقة. “كانت قلقانة علينا وتطلب منا أن نأتي لنسكن عندها”، قالت المرأة وهي تحضن ابنتها غير مصدقة نجاتها.
بالقرب من السيدة كان شاب من آل العطار يتفقد جيرانه بحزن بالغ “الحمد لله نجونا بس مش كلنا، عادلات ماتت”، يضيف بصوت متهدج. عادلات هي العاملة الأثيوبية التي اكتشفت العائلة أنها استشهدت على شرفة البيت في الطابق الثالث الذي يطل على الانفجار الثاني في مقابل مؤسسة الأيتام. ومع آل العطار كان جيرانهم يبحثون عن صديقة عادلات، زارتا، المفقودة أيضاً ليتضح أنها مصابة بجراح خطيرة وأنها نقلت إلى “مستشفى الرئيس رفيق الحريري الحكومي الجامعي”.
وإلى أسفل الأبنية خرج معظم سكان المباني “ما بقى في شي ينقعد عليه بالبيوت”، تقول أم صابر التي انتقلت للسكن في بئر حسن قبل عام تقريباً، “كل يوم منسأل حالنا معقول يفجروا هون؟” قالت، و”هام هم يجيبون على أسئلتنا” أضافت.
ومع سكان المنطقة وفد أقارب المواطنين الذين يعملون في المؤسسات. ناس لم تعد أعصابهم تتحمل. كثر لم يكونوا قادرين على الكلام. تشابهوا بقلقهم وبخوفهم وبالمصيبة التي تجمعهم. أم حسن واحدة من هؤلاء. سيدة سبعينية استقلت سيارة أجرة وجاءت تبحث عن بكرها الذي يعمل في أحد محلات المفروشات بالقرب من الانفجار. في اللحظة التي عثرت فيها على حسن حياً يرزق وقعت أرضاً وفقدت الوعي. مسنّ آخر لم يصدق البيان الذي أصدرته السفارة الكويتية ويفيد بأن جميع موظفيها بخير. كان الرجل يتوسل القوى الأمنية السماح له بالوصول إلى السفارة ليطمئن على ابنته في ظل عدم قدرته على الاتصال بها، مثله مثل كثيرين فقدوا التواصل مع أحبتهم أمس.
وعلى هامش المصيبة الأساس التي تمثلت في استهداف الأبرياء، عكست المجريات الميدانية بعض الوضع السياسي في البلاد الناتج عن تشكيل الحكومة بعنوان “الشراكة”، ومنها زيارة وزير الداخلية نهاد المشنوق، برفقة مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في “حزب الله” وفيق صفا، وقد انضم إليهما وزير المالية علي حسن خليل الذي كان في موقع التفجير.

السابق
اسرائيل تسعى لاقامة (جدار طيب) جنوب سوريا
التالي
الطريق مقطوعة من الاوزاعي والسفارة الكويتية والرحاب