مدرستي وأنا في الصفوف التكميلية الثلاثة الأخيرة، تديرها الراهبات الأنطونيات، وتقع في الحازمية، في نزلة من غابات الصنوبر العتيق الكثيف. العمران الوحيد المحيط بنا هو مستشفى المجانين، المعروف بـ”العصفورية”. بيننا وبينه تلّة من الغابات الأخرى، هي حديقة لمن شاء من بين المجانين الوقوف تحت فيئها الدافئ. في هذا المكان شبه السحري، المطلّ على العاصمة وبحرها، المرتفع عنهما بأمتار عديدة، يطلّ علينا يوماً، ونحن في السنة ما قبل الأخيرة لشهادة “البروفيه”، شاب يليق برومنطيقية هذا المكان، كأنه ولد من بطنه. شاب بالغ الوسامة، فارع الطول، بسواد من العيون الملتمعة، بمشية بطيئة موسيقية، بصوت قادم من المغارات، بعطر يتوزّع كيفما ولّى، ثم بحزن مديد… حزن أبدي، شاعري، جمالي. كتلة من الجمال المكفهرّ دخلت إلى الصف، يسبقها مزاجها الجبراني (جبران خليل جبران)، تتغلّب مع ذلك على كل استعصاء… بما فيه استعصائي للعربية التي لا أعرفها، ولكنني مرغمة على حضور دروسها. يسأل في بداية الدرس، أين كتابك؟ أين دفترك؟ فأشرح له، أكرّر له حالتي مع العربية… لا يمكنني أن أخرج. أكره القيود والقوانين… لكن البقاء يطيب لي. أريد أن أبقى، أن أكون قريبة منه، أن أحلم؛ وسامته حنانه، قساوته، حزنه… آه حزنه المبهج.
أما دروسه، فمسرح من المعرفة والأفكار؛ في طيّات كلامه، في متنه، وعلى جوانبهما، كل ما علينا أن نعرفه من مناخ ذلك العصر، ما بعد أواسط ستينات القرن الماضي: عن اشتعال الجبهات من حولنا، عن فلسطين، عن جمال اللغة العربية عندما ينطق بها، أو يكتبها… عن حرية المعتقد، عن كراهية جبران خليل جبران لرجال الدين.. نعم وسط الراهبات! عن التقدم الذي ينتظرنا، لو ناضلنا من أجله، عن شاعرية الأشياء وجمالها، عن الحب، عن العاطفة العارمة الذي تعتمر الصدور المفتوحة على الإنسانية… كان يقول “إنسانية” وعيوننا شاخصة على مجانين “العصفورية”. نتذرّع بهذه الإنسانية من أجل إقناع الراهبات بالسماح لنا بزيارة نزلائها أثناء فترة الظهيرة…
كل هذا المزيج سيقودني، بعد سنوات قليلة، إلى “منظمّة العمل الشيوعي”، وبعد ذلك إلى الانكباب على اللغة العربية.
لكن في هذه الأثناء، يحتلّ جوزيف حرب مكان الصدارة في مخيلة التلميذات في الصف. بعضهنّ أهابه، والآخر احترمه. لكن حفنة منهن وقعت في غرامه. وكان التنافس بين هذه الحفنة على نيل إعجابه أو التفاتته، هو الدينامو الذي يحرّك حصة اللغة العربية، بل ما بعد الحصة، في الملعب، حيث تتبادل المتنافسات نظرات الغيرة والتحدّي. أنا كنت واحدة من هذه الحفنة. وشغفي بالروايات الغرامية كان في بدايته، ولكنه قوي، كأنه قديم… وفضولي للأكثر جرأة من بين هذه الروايات يكلّفني عقوبة الطرد لعدة مرات. الروايات أمدّتني بما يكفي من المخيلة لكي أغذّي غرامي بهذا الأستاذ الفاتن. قبله لم أعرف سوى أبناء العمومة والعمات. ولا مرة دخل إلى جنتي الداخلية كائن بهذه الغرابة وهذه الألفة.
جوزيف حرب هو حبّي الكبير لبداية شبابي ونهاية مراهقتي. عامان أمضيتهما في المدرسة من أصل ثلاثة، امتلأت أثناءهما جنّتي بالورد والزنبق، بما أصبح الآن ذكرى جسد وروح. أحببتُ جوزيف حرب عندما كانت روحه بكر، عامرة بغضب لا يوجع… عندما كان جسمه لا يؤلمه، لا يقلقه، لا يخذله، عندما كان يرتجّ بكهرباء الرغبة… أحببته عندما كانت الحياة عندي أبدية، أحلم بالحب وأنا أقرأ الروايات أو أحدّق في الغيوم على أنغام المطر والريح، عندما كانت الأشجار على قيد الحياة، ومعها تلك الرائحة الندية، التي تختلف من فصل إلى آخر.
زرتُ مدرستي في المرة الأخيرة منذ عامين. مبنى “العصفورية” كانت الحرب قد دمّرته، فأطلق سراح سجنائه. أما الغابات الصنوبرية فقد استبدلها يد العمران بالإسمنت والحديد. وصارت الرائحة لا تختلف عن رائحة بيروت، السابحة في سواد العادم والمازوت. كان طيف جوزيف حاضراً، كما لدى كل زيارة. “هذا عالم عن ماض من دون آثار… وحدها الذاكرة هي الصرح، هي الأرشيف”، أقول في نفسي… والآن، مع رحيله، أضع وردة برّية حمراء على اسمه، وعلى زمن كان فيه هو بطلي.