عيونها الواسعة، المزيَّنة بمساحيق خفيفة وثقيلة، مثل عيون غزالة منذورة لتكون فريسة صائدها. عيونها تنادي الصياد، تدعوه للإنبهار بسحرها. عيونها، باب فتنتها. بعد ذلك، خذْ شعرها؛ انه مثل نهر طويل منفوش. أحياناً، عندما لا تكون يد الحلاق قد وُفّقت تماماً، تنشغل هي بنفسها بهذا الشعر؛ فترفعه إلى الوراء، تعيده إلى الأمام، ثم يميناً وشمالاً؛ وبحركة لا تزيد غير تأكيد ما تقوله العيون. صوتها، آه صوتها: يداعب المخيلة، يرتفع قليلاً، ينخفض قليلاً، يتدلّل ويهمس، يداعب ويلاطف… صوتها لا ينتهي من المناداة، مهما كانت نغمته. ولكنها لا تكتفي. وهي جالسة بوسعها أن تحرّك خصرها ويديها وكتفيها، بتمايل حيناً، بتراقص أحياناً أخرى. ولكن في كل الأحوال، جسدها ينطق باللغة نفسها، لغة التي لا تحلم بغير أن تكون فريسة لصياد ذي شأن أو عزوة. وما يضيف إلى هذا الجسد رونقاً، هو ذاك الهندام المتبدل عند كل طلّة؛ بتلك الفساتين الدارجة، بـ”صرْعاتها” المختلفة، و”الأنْسمبلات”، الدارجة هي الأخرى… الملفتة، المثيرة.
هذه ليست نجمة إغراء. إنما مذيعة أخبار في الأقنية اللبنانية، أو العربية المتلبْنِنة. هي ليست مذيعة بحد ذاتها، إنما النموذج “الأنجح” من المذيعات، الأكثر شعبية لدى جمهور المشاهدين والمشاهدات. هذه ليست نجمة إغراء… ولا، من جهة أخرى مقدمة برامج التسلية، أو “سهرات” مع النجوم، إنما مقدمة نشرة الأخبار. تطلّ علينا بكامل “عدتها” هذه، حاملة إلينا أنباء المآسي والدمار والموت. هي لا تقصد، عندما تتدلّل كل هذا الدلال، وهي تذيع خبر مجزرة مثلا، لا تقصد الإساءة إلى مشاعر من يتألمون من كل هذه المآسي المتنقّلة. ولا تقصد بالتأكيد التقليل من شأن هذه المأساة. هي فقط تفهم صورتها على انها صورة نجمة إغراء. مثلها الأعلى في الحياة هي نجمة الإغراء. ولكنها تبدو في وضعية من فاتتها، لسبب ما، نجومية الإغراء… فعوّضت عن الخسارة بانتحال صفتها.
طبعاً أنا هنا أبالغ قليلاً. ليست الحظوظ متساوية بين مذيعات الأخبار. منهن “الجميلات”، ومنهن “المثقفات”، ومنهن ذوات التربية أو النشأة التي تثبط، هكذا ميل للتشبه بنجمات الإغراء. أو لنقل، بعبارات أخرى، ان النموذج الناجح، الشعبي، بين مذيعات الأخبار في أقنيتنا، هو ذاك الذي يتوق إلى اعتماد كل مستلزمات نجمة الإغراء. بين هذا الحدّ، الأقصى، وبين الأخريات فاصل طويل، يمر بالمذيعة الباهتة، القاعدة، غير المهتمة بغير “وظيفة القراءة” من دون أخطاء، والعودة من العمل، بنوع من الإحباط المهني والنفسي. وينتهي هذا الفاصل في طرفه الأخير بالمذيعة المحجّبة، حجابا “شرعياً”، متشدداً وقاتم الألوان. مع إن المذيعة المحجبة لم تدخر هي الأخرى جهداً لترتيب الإضاءة وإبراز العيون، والقيام، أحياناً، وبخفر، ببعض العمليات التجميلية الخفيفة. ولكنهن يحتفظن مع كل ذلك بذاك الكبرياء الخاص بالمتعفّفات عن الإغراء الجنسي.
وإذا عدتَ إلى العلاقة القائمة بين مذيعة الأخبار المغرية، وبين جموع المشاهدين، فسوف تلاحظ مدى التطابق بين المثل العليا لكليهما، خصوصا الشابات من بينهم. تلاحظه في انطباع العمليات الجراحية على وجوههن، على شعرهن المشقّر دائماً، أو “المائل” الى الشقار، بهندامهن المغري… وبالمئات من التفاصيل الصغيرة، في الكلام والمشي والصوت و… تماما مثل مذيعتنا أو نجمتنا.
الجيل الجديد من اللبنانيات لم يتمكن حتى الآن من صياغة أو بلورة أو تطوير أنوثة جديدة، تحاكي مستوى تعلمهن، أو ثقافتهن، أو مهنتهن، أو أسلوب حياتهن. الإعلاميات من بينهن، هن الأكثر تعرضا للنظر بعد نجمات الإغراء، أو الأكثر تأثيراً على الذوق. وعندما يقتدين بسلوك أولئك النجمات، فهن لا يخترعن جديداً، بل يعدن إلى أزمان غابرة: الزمن الذي غرفت منه النجمات، بدورهن، مثلهن الأعلى؛ زمن قصور الحريم ومتاهات الصراع الضيقة من أجل نيل رغبة السلطان أو أبنائه الأمراء.
ماذا خلف هذا العجز من إختراع أنوثة جديدة؟