إخوان تونس يرفعون ’البطاقة الحمراء’ لأخوان مصر

تونس قررت مرة أخرى تعليم المنطقة العربية كيف يُصنع “التاريخ العاقل”، وكيف يمكن استيلاد الأمل من رحم المأساة.

الأمل هنا هو إنقاذ الربيع العربي من عواصف الخريف والشتاء التي لفحت بعنف كل ثورات مصر وليبيا وسورية واليمن، وكادت تقوّض حلم المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية.
أما لماذا هي المرة الثانية، فهذا له علاقة بالتاريخ. فحين انقض التطرف الأصولي في المشرق العربي في القرن الثالث عشر على الفلسفة وحرية الفكر وأغلق باب الاجتهاد، إنبرى المغرب العربي للقيام بالجهد الانقاذي، فبرز ابن رشد وابن خلدون وابن طفيل، وأعادوا للفكر إبداعه وللحضارة الإسلامية رونقها وحيوبتها.هذا الفكر الأصولي نفسه، بأشطاره الدينية كما السلطوية- الأمنية، يقوم في القرن الحادي والعشرين بعملية انقضاض مماثلة للتك التي حدثت قبل سبعة قرون. ومجددا، لولا الثورة الثانية الراهنة التي قامت بها تونس قبل أيام، لكانت دائرة العصور الداكنة الجديدة قد أغلقت، ولغرقت المنطقة مجدداً في مستنقع دماء ويأس داخل نفق لا نهاية له.
الثورة الثانية، التي ستبني الجمهورية الثانية في تونس، تمثّلت في نجاح النخب النهضوية (حزب النهضة الإسلامي) والعلمانية في الابتعاد عن حافة الحرب الأهلية التي كانت وشيكة، عبر تقديم تنازلات أدت إلى ولادة دستور جديد حظي بإجماع شبه كامل في الجمعية التأسيسية (200 نائب من أصل 216).

– II –
حزب النهضة كان الطرف الأكثر تحملاً لمسوؤلية هذه التنازلات التي كانت لاشك “مؤلمة” للغاية بالنسبة إليه. فهو وافق على شطب أي إشارة إلى الشريعة الإسلامية كمصدر رئيس للتشريع، واكتفى بالنص على أن الإسلام هو دين الدولة. وهو حافظ على “المكاسب التي حققتها المرأة” ودعا إلى “تطويرها”، بما في ذلك التمثيل المتساوي في المؤسسات المتنخبة. كما أقر الدستور حرية الرأي والمعتقد وأشار إلى أن تونس “دولة مدنية” تستند إلى “إرادة الشعب وسيادة القانون”.
قد يقال هنا أن حزب النهضة أقدم على هذه التنازلات الضخمة التي كان يرفضها طيلة السنوات الثلاث من عمر الثورة، بما في ذلك قبول تسليم رئاسة الحكومة إلى شخصية من خارج الحزب، لأنه خشي أن تنهار العملية الديمقراطية في تونس كما حدث في مصر، أساساً لأن القوى الدولية الداعمة لوصول الإخوان المسلمين، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تتحرّك لانفاذ وعودها وتعهداتها لهم (على حد تعبير دبوماسي غربي في تونس). وأيضاً بسبب تراقص الاقتصاد التونسي على شفير الانهيار، وتصاعد النشاط الإرهابي في البلاد.
هذا الرأي يؤيده حتى زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي، الذي رفع “البطاقة الحمراء” حيال سلوكيات إخوان مصر حين قال مؤخرا، رداً على منتقدي الدستور الجديد:” الخيار كان بين أحد أمرين: إما الرهان على الإجماع، أو الذهاب إلى الحرب الأهلية والديكاتورية بسبب انقسام البلاد إديولوجيا”.
وفي وقت لاحق، أبلغ الغنوشي “فايننشال تايمز” قوله بصراحة: ماحدث في مصر كان زلزالا. كان هناك البعض في المعارضة يريد استيراد النموذج المصري (الجديد)، وهذا أثّر بالتأكيد على قرارنا”.

– III –
حسنا. مصر أثَّرت بالفعل على قرار الإخوان التونسيين. لكن مثل هذا التأثير لم يكن لتقوم له قائمة لولا وجود استعداد حقيقي، وأوّلي، لدى حزب النهضة كي “يصالح” فكره الإسلامي مع مندرجات مباديء الحداثة والديمقراطية.
وهذا مالم يفعله إخوان مصر، الذي تلقوا هم أيضاً تحذيرات قوية قبل أشهر من الانقلاب العسكري- الشعبي عليهم بضرورة العمل وفق سياسات الإجماع والشمولية للجميع، وليس وفق توجهات الاستحواذ والإقصاء والسيطرة. وقد جاءت هذه التحذيرات من الرئيس الأميركي أوباما ومن رئيس الحكومة التركية أردوغان، والأهم من راشد الغنوشي نفسه الذي توجّه إلى القاهرة وناشد الرئيس مرسي العودة عن سياسة التصعيد والإلغاء.
بيد أن إخوان مصر كانوا في شبه غيبوبة آنذاك، بسبب حالة السكر التي تعتعتهم لانتقالهم من غياهب السجون والملاذات تحت الأرض إلى رؤوس أهرامات السلطة فوق الأرض.
أفضل من عبَّر عن حالة التعتعة هذه كان عصام العريان نائب رئيس «حزب الحرية والعدالة»، الذي كان يفترض أن يكون “الأكثر عقلانية واعتدالاً” في صفوف قادة الأخوان.
ففي حديث نشرته الزميلة «الحياة» في 29 حزيران/يونيو الماضي، أي قبل يوم واحد من اليوم الذي غير اتجاه الأحداث في مصر، سئل عما إن كان يعتقد أن «الإخوان» ارتكبوا خطأ حين تولوا مسؤولية مصر في مرحلة حرجة؟. وجاء الجواب: «أعتقد أن «الإخوان» ضحوا تضحية كبيرة جداً في تحمل المسؤولية في ظروف محلية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد والصعوبة وجازفوا مجازفة ضخمة بتاريخهم، بثقة الناس فيهم، وبتوظيف إمكاناتهم. فبعد الثورات، دائماً طموحات الناس كبيرة جداً جداً، وإمكانات الدول لتحقيق ما تريده قليلة جداً. وفي الوقت ذاته أن تتولى دولة بحجم دول، وأنت لم تكن في ماكينتها، لا موظفين، لا وزراء سابقين، لا خبراء يعلمون تفاصيل، لا تمتلك أجهزة الأمن ولا أجهزة المعلومات، لا تمتلك شيئاً… هذه مجازفة كبيرة”.
بيد ان العريان نسي أن يضيف أن هذه المجازفة هي في الواقع مقامرة خطرة للغاية، ليس فقط لمخاطرها الداخلية الجمة، بل أولاً وأساساً لأن الإخوان المصريين بنوا كل استراتيجيتهم على أساس الافتراض المخطيء بأن الولايات المتحدة، التي تراهن عليهم لتزويج الإسلام السياسي إلى الديمقراطية، لن تتركرهم “لقمة سائغة للذئاب”.
بكلمات أوضح: الإخوان المصريون لم يكونوا مستعدين البتة، ربما لأسباب إيديولوجية وثقافية وسلطوية، للتأقلم مع حقائق الحداثة في المنطقة، وزاوجوا بين فكرة الإمساك بزمام السلطة كاملة وبين هدفهم بإقامة الدولة الإسلامية “هنا والآن”.
وهذه تثبت الآن أنها كانت فكرة انتحارية، وليس عملية مجازفة فقط. فكرة نجح حزب النهضة في استبعادها من جدول أعماله، فأنقذ نفسه ومعه تونس من المآل المصري الداكن.
وهكذا، عادت تونس لتمسك بتلابيب الربيع العربي، فأعادت الأمل إليه، وبدأت ترسم انطلاقاً من المغرب العربي (مجددا) خريطة طريق مغايرة لكل المنطقة العربية. خريطة يكتنفها التفاؤل وتغشاها روح ابن رشد العقلانية، وعبقرية ابن خلدون التاريخية- الاجتماعية، وإبداعات ابن طفيل التطورية.

سعد محيو

السابق
ترقب صدور وثيقة وطنية من بكركي قريباً
التالي
قتيلة صدما في تبنين