لا تحكم على رئيس جمهورية فرنسا، فرنسوا أولاند، بناء على صورته، على وجهه أو هندامه، أو جسده، أو الكلمة التي استأنف بها برنامجه، يوم خاض معركته الإنتخابية ضد سلفه وخصمه نيقولا ساركوزي: “أنا رئيس عادي”. وكان يرمي بذلك إلى إيهامنا بهدوئه ورتابته، ليطرد صخب سلفه، ساركوزي، وما لازم عهده من تبدلات ومفاجآت في حياته الخاصة، منذ اللحظة الأولى لتولّيه الرئاسة. لا تصدق الصورة. انها مجرد درع لحياة غير هادئة، غير عادية، يعيشيها أولاند، يجذب اليها نساء ذات طبائع شغوفة وقوية، تولد بفضلها قصص وروايات… ففرنسوا أولاند، “رفيق”، أو “شريك” سيغولين روايال منذ كانا طالبين في الجامعة. أنجب منها، ضمن هذه “الشراكة”، أربعة أولاد، وخاض معها غمار السياسة من خلال الحزب الإشتراكي الفرنسي، الذي تسلقا معا كل مراتبه ودرجاته، حتى القمة. إذن فرنسوا وسيغولين مثل زوجين، من دون عقد، بعائلة كبيرة وأولاد كثر. في العام 2004، وأثناء هذه الحياة المشتركة، النشيطة سياسياً، يتعرف فرنسوا أولاند الى فاليري تريرولر، فتقوم علاقة غرامية بينهما، سرية بداية، ولكنها سرعان ما تصل وقائعها الى آذان سيغولين روايال. فيكون قرارها، “الكيدي” بخوض الإنتخابات الرئاسية بدلاً منه (2007) ضد اليميني نيقولا ساركوزي، تعدّ له بانتخابات تمهيدية داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي ليختارها مرشحه للرئاسة. وفي أثناء هذه الحملة، تعلن سيغولين عن القطيعة مع فرنسوا، في حين يكون هو متحرراً الى حدّ ما من موجبات الترشح وحملاته، غارقاً في قصة غرامية مع فاليري. تخسر سيغولين أمام ساركوزي، فيبدأ فرنسوا دربه الجديد نحو الرئاسة المقبلة بدعم وتفانٍ من فاليري، التي تعرف كيف تعطيه المعنويات والثقة وتضيء طريقه بتحليلاتها الثاقبة. فهي المسؤولة مباشرة عن ملف الحزب الإشتراكي الفرنسي في مجلة “باري ماتش”، منذ عشرين سنة تتابع كل تفاصيله الداخلية. ما يتسبب بنصف فضيحة مهنية عندما يصل خبر علاقتها بمن كان وقتها أحد كبار المسؤولين في هذا الحزب؛ لا تترك فاليري تريرولر وظيفتها مع ذلك، بل تنتقل الى زاوية “الكُتب”، حيث تقدم بانتظام كتاباً جديداً وتنقده. المهم انه في هذه الأثناء أيضا، أي في العام 2011، يتعرف أولاند على ممثلة فرنسية شابة اسمها جولي غاييه، ويقيم علاقة معها، تعرف صعوداً وهبوطاً مستمرين. الجميع يعلم بأمر هذه العلاقة، وفاليري تريرولر من بينهم، ولكنها تتمسك برجلها، تتشبث به، خصوصاً انها على أبواب السنة التي سوف يكون “شريكها” قد قطف ثمار جهدها وحماستها وتضحيتها بوقتها دعماً لطموحه أشد الدعم. وهي تعلم أيضا بالشائعات التي تضج بها الصالونات والمقاهي الباريسية حول علاقته بالممثلة الشابة؛ انه السرّ الأكثر شيوعاً في هذه الأوساط. ثم يحصل ما بتنا نعرفه جميعاً: مصور بباراتزي يلتقط صوراً لرئيس الجمهورية راكباً دراجة نارية وواضعاً على رأسه خوذة، يتوجه الى منزل عشيقته جولي غاييه. فتنفجر الفضيحة، أو بالأحرى يصبح السر الشائع خبراً مؤكداً ورسمياً، مدعم بالصورة الهزلية لرئيس ثقيل الخطى والدم، يتصرف مثل زورو في أفلام المغامرات… وتدخل فاليري تريرولر الى المستشفى بعد انهيار عصبي حاد. ثم تقرر بعد خروجها من المستشفى أن تستريح في قصر “لالنترن” (الفانوس) الكئيب في فصل الشتاء، والمخصص لإجازات رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء. اختارته فاليري “لترسم حدود أرضها، بأنها لم تعُد تقيم في قصر الإليزيه، ولكنها هنا في قصر فرساي، ملتصقة بجدران الرئاسة، مجاورة لملوك فرنسا” (مجلة “نوفل ابزرفاتور”). والبقية تأتي….
عند هذا الحدّ، المقارنة تفرض نفسها: بين ساركوزي وزوجته سيسيليا، يوم فاز برئاسة فرنسا، وفرنسوا أولاند و”شريكته”، فاليري، بعد عام ونصف من وصوله اليها: الرئيسان لم يختلفا عن بقية خلق الله عندما قالوا، في ذروة غرامهم، بأن المرأة هذه، هي “إمرأة حياتهم”. تلك الكلمة الجاهزة على مدى الدهر، والتي تضاهي جملة يقولها كل عاشق، للمرأة التي أمامه، بأنها “أجمل النساء”.
واضح أن “مركزية” هذه المرأة، أو تفوقها بالجمال على سائر النساء، لا يدومان، لدى الرؤساء، كما لدى المواطنين البسطاء. عندما قالها ساركوزي عن سيسيليا، كانت عشيقاته تملأن باريس أخباراً مثيرة عن مغامراتهن ومجازفاتهن معه. والآن أولاند، الرصين، “العادي”، “الطبيعي”… لا يغير حرفاً من هذا السيناريو؛ فاليري “امرأة حياته”، فيما عشيقته تنتظره في شقتها.
المشترك أيضاً ان ساركوزي وأولاند اتكآ على جهود أولئك الزوجات، أو “الشريكات”، من أجل التسلّح بالدعم المعنوي والمعرفي والنفسي، الذي يحتاج إليه كل صاعد الى أية سماء. فكانت النتيجة واحدة في الحالتين: “الوفاء” لجميلهن، بعد تحقّقه، كان بالمزيد من العشيقات. ولكن ردة فعل سيسيليا، زوجة ساركوزي، تختلف عن ردة فعل فاليري، “شريكة” أولاند. ولا تقلْ هنا ان الموضوع حقوق النساء، أو عمل المرأة، أو استقلالها. فالأولى، سيسيليا، التي دخلت طواعية القفص الزوجي، ولا تعمل… سيسيليا هذه لم تنتظر أكثر من شهرين من تولي زوجها الرئاسة، حتى أعلنت انفصالها عنه، بعد علاقة غرامية مع ريشار اتياس، منتج الإعلانات الأميركي، وقد صارت الآن زوجته. كانت المرأة الأولى في الجمهورية الفرنسية التي تعلن عن طلاقها من زوجها الرئيس، المرأة الأولى التي لا تريد أن تكون جاكلين كينيدي ثانية، تلك “السيدة الأولى” التي تكبّدت عشيقات زوجها كمن يبتلع السموم. تردد سيسيليا: “أنا وهو في قصر الاليزيه (الرئاسي) سوف نلعب سوياً لعبة آل كينيدي!”. انها الفرنسية الأولى التي تتمرّد على هذا القانون الضمني القائل بحتمية العشيقات في حياة أي رئيس أو ملك فرنسي: من لويس الرابع عشر وحتى ميتران وجاك شيراك… أما فاليري تريرولر، فطبائع أخرى: على الرغم من “حريتها” التي تتشبّث بها، وتمسكها باستقلالها الإقتصادي وبحيز خاص لحياتها، ولأولادها (متزوجة مرتين وأم لثلاث أولاد)، غير انها تقع في الإلتباسية التي تنصبها طبائع أولاند لكل “شريكاته”؛ انه لا يتزوج لأنه يريد أن يكون حراً، ولكنه لا يأخذ ولا مرة واحدة مبادرة بالقطع. يترك السياقات تعطيه الفرصة ليتتسلل إلى القطيعة من بين ثغراتها. ربما هذا الجانب من شخصيته هو الذي جذب اليه نساء قويات، مبادرات، شغوفات. فاليري تريرولر تعلم كل شيء ولكنها لا تتركه. تمْسك بذراعه، تتعلق بنظراته، تلح عليه في احدى المهرجانات الإحتفالية بفوزه أن يقبّلها من فمها أمام الصحافيين…. وجهها تغير منذ أن تعرفت على أولاند. كانت ملامحها راضية، هادئة، صافية؛ وإذا بها تجحظ عيناها، تشتد عبْستها، تنتفخ شرايين رقبتها، يشتعل نظرها بجمر الغيرة المتواصلة. انه التقدم بالعمر طبعا، ولكن كيف؟ بعنف عواطف مرضوضة، ولكنها عنيدة في آن. لا ترحل فاليري تريرولر، كما فعلت سيسيليا، إنما تنهار وتدخل المستشفى. لا نعرف قرارها بعد ذلك، أو بالأحرى لا نعرف ما الذي سوف تفرضه “الفضيحة” من ترتيبات. ولكن مهما كانت النتيجة، فان السؤال المطروح على فاليري تريرولر، هو نفسه ذاك الذي طرح على هيلاري كلينتون، أثناء التحقيق العلني الذي خضع له زوجها، بيل، حول علاقته الغرامية باحدى بالمتدرّبات، مونيكا لوينسكي. كان العديدون ينتظرون إنفجارها، أو طلبها الطلاق، بعد هذا الإذلال العلني لكرامتها الأنثوية. لكن هيلاري أعدّت للإعلام صورة عن حالتها كانت هي النقيض تماماً: مكسورة قليلاً، ولكنها مكابرة على جرحها، تؤكد حبها له، وعفوها عنه… صورة بطولية لم تقنع أحد المعلقين الذي تساءل وقتها: “هل هي سلطة الحب أم هو حب السلطة الذي يضفي على هيلاري كل هذه الملائكية؟”. بقية مسلسل هيلاري يأتي بالإجابة.
ولكن الآن، مع الحلقات الأولى للمسلسل الفرنسي الجديد، ثمة ما بات ملفتاً للنظر في عقدته الرئيسية، تلك المتعلقة بالعلاقة بين الجنسين، في بلد مثل فرنسا، ما زال يصدر قيما ومفاهيم، بعدما تراجعت صادراته الصناعية. حول الحب أولاً: لم يعد الحب مشروعاً مستداماً لمدى الحياة. لمن كانت امتيازاته كثيرة، يعبر عن تلك الفكرة بإقدام وشجاعة كبيرين، لا يمكن مقارنتهما بتحايل وتخابث وتلاعب الأقل منهم شأناً. الخاسرون ممن ما زالوا يعتقدون الحب غير زائل، لن يتراجعوا قيد أنملة عن “خلوده”، هذا الحب. ولكن تلك هي الحياة الآن…بأوهامها الحلوة.
ثانيا: ان علاقة “الشراكة الحرة” لا تقل وهناً واضطراباً عن علاقة الزواج الرسمية؛ بل قد تتساويان. أولاند أبى الزواج حفاظاً على حريته، فكانت العشيقات السريات. أما ساركوزي، فلم تمنعه قيود زيجاته العديدة من ان يكون حراً في علاقاته مع عشيقاته. على هذه الصورة يكون الزواج إطارا مثل “الشراكة”، تتفوق بداخلها الطبائع وديناميكيتها على ما عداها، خصوصاً القوانين والأعراف المرعية، الضمنية منها والمعلنة.
لكن الذي تغير، والذي سوف يغير في وقت لاحق، أوجه من هذه العلاقات، والذي سوف يرفدنا بروايات جديدة، هو اننا في عصر الصورة الفورية وشبكات التواصل الإجتماعي. غراميات الرؤساء الفرنسيين لم يكن يُكشف عنها رسمياً، أو شبه رسمي، إلا بعد وقت انقضاء صلاحية العقاب؛ من الشريكة خصوصاً التي تكون علمت بها، وقد ابتلتعها حباً بالسلطة أو تحت سلطة الحب، لا فرق. أما الآن، فيمكن لأي هاو ان يأتيك بالصورة البرهان… علما بأن مجلة “كلوزر” صاحبة الفضيحة، لجأت في هذه الحالة الى بباراتزي محترف. بعد ذلك، شبكات التواصل الاجتماعي تتكفل بالتعليق عليها سخرية أو توبيخاً أو تمجيداً وبحثاً في ماضي أبطالها، الرئيس، “شريكته” الحالية، “شريكته” السابقة أم أولاده، ثم عشيقته الممثلة. يوم الفضيحة صدرت ستة آلاف تغريدة حول الموضوع. وزير الثقافة السابق، فرديريك ميتران، في واحدة من هذه التغريدات: “من كان يتصور ان فرنسوا اولاند هو فرنسوا كازانوفا؟”. الفضيحة الفورية، المتعة الفورية للمعلقين عليها، غضبهم، شجبهم، تسليتهم، فضولهم… كل هذا حطم نهائيا الحواجز القائمة بين الحياتين العامة والخاصة، فباتت كل الأبواب مشرعة. يكفي ان يكون المرء من المشاهير، حتى يدخلك الى حميميته، ثم يغضب بعد ذلك من فضول المدمنين على المزيد من هذه الحميمية، تغذيةً لمخيلته الشحيحة.
والأطرف من كل ذلك ان الفرنسيين يحترمون الحياة الخاصة لرؤسائهم، يدعون من غير كَلَل، حتى في استطلاعات الرأي، إلى عدم التدخل بهذه الحياة. ولكنهم، وحسب الإستطلاعات نفسها، وبالنسبة نفسها، شديدو الإنكباب على تفاصيل غراميات رئيسهم الجديدة. هم أنفسهم دعاة الرزانة والتحفظ، يصبون نظرهم، يبصْبصون على كل التفاصيل الدقيقة لروايتهم الوطنية الجديدة. لسنا وحدنا، نحن العرب، المفارقون المتناقضون اللعوبون…