طالع نازل

طالع نازل

مصعد في عيادة طبيب نفسي طالع نازل لنقل نماذج من أمزجة الناس الطالعة والنازلة على احباطات وتأزمات وانفراجات وهواجس وانفعالات، في بلد طالع ونازل بدوره على حالات متعاقبة من الاستقرار واللااستقرار. جميل هذا الربط بين وضع البلد ووضع ناسه من خلال حبكة درامية كوميدية لا وعظ فيها ولا تعميم، تمزج لحظات من يوميات مجموعة أشخاص (ندى بو فرحات، ديامان بو عبود، حسان مراد، عايدة صبرا، منال خضر، منذر بعلبكي، زياد عنتر، يارا ابو حيدر، حسام شحادات) يقومون بزيارة عيادة الطبيب (كميل سلامة) في اليوم الاخير من السنة، ويستقلون المصعد صعوداً وهبوطاً مع الناطور (فادي ابو سمرا)، في محاولة لتصفية حساباتهم وإيجاد حلول لمشكلاتهم ومعاني جديدة لحياتهم. المصعد يتحرّك، القصص تتشابك والاسرار تكشف في الشريط الروائي الطويل الاول للمخرج وكاتب السيناريو محمود حجيج “طالع نازل” من انتاج جورج شقير( أبوط بروداكشن)، وبدعم من “آفاق”. فعلاً كم “كان طالعاً على بالنا” شريط لبناني مختلف عن موجة بعض الافلام السينمائية اللبنانية الاخيرة التي انزلت العقوبة القصوى بأحد ابرز مكوناتها: السيناريو . مع “طالع نازل”، “طلعت سلتنا” مليئة بتجربة سينمائية خاصة واستثنائية قائمة على سيناريو صلب يمزج الدراما بالطرافة بشكل متناغم، وعلى اعداد متقن للقصص والشخصيات. فمن حسن حظنا ان محمود حجيج لا يعتمد على الحظ في البناء الدرامي لشريطه، بل على كثير من الحرفة الفنية والتحضير المكثف والواقعية العلمية، وخصوصاً لجهة المسائل النفسية وكيفية اجراء الجلسات التي تطلبت وجود معالجة نفسية شاركت في الاعداد واثناء التصوير، مما اكسب الشريط صدقية. اللافت ايضاً في الفيلم ذلك التناقض بين حركة الكاميرا الثابتة والاطارات التجريبية والديكورات شبه المحدودة والمكررة مرات عدة (عيادة الطبيب والمصعد) التي تشبه سجناً تحاول الشخصيات الخروج منه، وبين امزجتهم وافكارهم التي تغلي والتي تعتبر “الاكشن” الفعلي للفيلم. الاسلوب المشهدي المختار ناجح رغم ان لا جمالية فعلية تميّزه، وما يلفت فيه أنه ملائم تماماً للحبكة والجو العام ولا انفصام بينهما.

اما استعراض الاداءات القوية فيقدمه كورس من الممثلين، كانوا كلهم ابطالاً (حتى من كان مرورهم سريعاً وقصيراً) بشخصياتهم النافرة والبعيدة عن الكليشيه، وبنوعية ادائهم ومضمون قصصهم وحركاتهم داخل العيادة وعلى المقعد وفحوى صمتهم وكلامهم وكيف يقولونه عندما يقررون ان يقولوه، من خلال حوارات ومونولوغات ذكية وطبيعية تشبه لغتنا اليومية، وادارة ممثلين متقنة، اخرجت افضل ما لديهم. الشخصيات كلها بدت مقنعة ومشغولة بعناية، بعضها ضائع تماماً مثل ندى بو فرحات التي تحتاج الى أكثر من رجل لتهرب من الفراغ، وبعضها الاخر مؤلم جداً مثل ديامان بو عبود بعينيها المغرورقتين بدموع لا تنهمر وألمها من صمت أمها، والسوري حسام شحادات الذي يحتاج الى مساحة حرية ليبوح بمشاعره المكبوتة، وحسان مراد صانع المانكانات البلاستيك الذي يخاف الخروج والاختلاط بالناس. ايضاً تتميّز بعض الشخصيات بالطرافة الفكاهية مثل زياد عنتر المريض الوهمي، أو المضحكة المبكية كما الزوجين منذر بعلبكي ويارا ابو حيدر اللذين فقدا لغة التواصل ولم يعد لديهما شيء ليقولاه وخصوصاً ان لا اولاد لديهما، على عكس عايدة صبرا التي تركز على مشكلتها مع ابنها الثرثار لتهرب من مشكلتها الحقيقية مع زوجها العنيف.
اما الاشادة الفعلية فهي بالممثل القدير كميل سلامة الذي اختار المخرج عدم تصوير وجهه في القسم الاكبر من الفيلم، فأوصل لنا انفعالات الشخصية من نبرة الصوت وحركة اليدين والقسمات الجانبية للوجه. كميل سلامة نراه معظم الوقت اثناء الجلسات من الجهة الخلفية لرأسه، كأنه تحوّل عين المخرج أو الكاميرا التي تلاحق الشخصيات. ونحن لن نرى وجهه كاملاً الا عندما يخلع عنه دور الطبيب ويتحول انساناً عادياً لديه مشكلاته الخاصة مع زوجته (منال خضر)…
لكل الطالع على بالهم مشاهدة تجربة سينمائية مختلفة ومهمة، شريط “طالع نازل” نازل بثقله الفني الكبير الى الصالات السينمائية هذا الاسبوع.

السابق
عِلمٌ لا ينفع: جوعانٌ لا يَشبع
التالي
«السفير»: هيل يفضل حكومة تضم حزب الله