محمد شطح: الذين يشبهوننا ويعيشون حياتنا يخسرون الكثير

محمد شطح
"الذين يشبهوننا ويعيشون حياتنا يخسرون الكثير. وأنا خسرت الكثير، إذ لم يعد لدي الوقت الكافي لمن حولي، وصارت صداقاتي لها علاقة بالعمل والسياسة أكثر من الأمور الشخصية. ما عاد لدي الوقت اللازم لممارسة هواياتي، كالقراءة. كنت اقرأ الفلسفة والكتب العلمية، بالإضافة إلى أن حياتي الاجتماعية باتت سطحية، وخسرت الخصوصية"، قال لي في حوار خاصّ. وأقول له اليوم: الذين يشبهونك يخسرون حياتهم.

رغم انشغالاته الكثيرة، اعجب وزير المال السابق، الدكتور في الإقتصاد، محمد شطح بفكرة الحديث عن حياته الخاصة، بدلاً من الحديث في المواضيع السياسية. كأنّه وجد من يذكّره بأنّ له حياة خاصة، هو الذي التقيناه في يوم حافل بدأ صباحاً ولم ينته ما بعد مغادرتنا عند السادسة والنصف مساء.

محمد شطح الذي ولد في طرابلس الستينات ودرس في المدرسة الأميركية الإنجيلية، وشب في بيروت 1975 في الجامعة الأميركية، على شفير الحرب، أمضى ثلاثين عاماً في صندوق النقد الدولي في الولايات المتحدة، بعيداً من لبنان الحرب الأهلية، إلى أن طلب منه الرئيس الراحل رفيق الحريري العودة إلى لبنان نائباً لحاكم مصرف لبنان العام 1993 ثم طلب منه أن يكون سفيراً للبنان في واشنطن العام 1997 حتى استقال بعد استقالة الحريري العام 1998.

لكن الرئيس فؤاد السنيورة أعاده إلى لبنان وزيراً للمال العام 2005 ثم اعتذر عن عدم قبول الوزارة العام 2009 وفضّل أن يكون مستشاراً للرئيس سعد الحريري في السرايا حيث التقيناه.

يحبّ الكوسا باللبن وأمّ كلثوم بعد «السوشي»، ويعتبر العمل السياسي «مهمات» وطنية لا وظائف، ولا يعرف أين سيكون بعد سنتين أو ثلاث. الرجل الذي أمضى أكثر من نصف حياته في الولايات المتحدة أكد لـ «الراي» أنه لبناني بحت. تعلّم في أميركا كيف يحب لبنان وكيف يخدمه أفضل مما يخدمه الوزراء الآتون من السياسة. وفي ما يأتي وقائع الحديث معه:

 

• كيف يتذكر محمد شطح نفسه، كيف بدأت، وأين تعلمت، وكيف أتيت إلى النادي السياسي من خارجه؟

– لا تختلف حياتي في نواح كثيرة عن حياة آلاف اللبنانيين من أبناء جيلي، فقد تربيت في خمسينات القرن الماضي وستيناته، في فترة يسميها الناس اليوم «العصر الذهبي»، اجتماعياً وسياسياً ووطنياً.

تربيت مثل الكثير من أبناء جيلي في مجتمع مختلط طائفياً في طرابلس. ولم تكن عاصمة الشمال مدينة مسلمة أو سنية 100 في المئة بل كانت مختلطة، وأهم من ذلك أن الدين كان موجوداً في التعايش، فقد كانت مدينة علمانية ذات دين وسطي من الناحية الاجتماعية ومن نواح أخرى. لم نكن في تلك الفترة نفكر في الأمن أو في السياسة، ولم يكن هذان المعطيان أساسيان في الحياة اليومية.

ارتدت مدرسة خاصة مثل معظم أبناء جيلي. ومن أبرز مظاهر تلك الفترة أنّ معظم الناس كانوا يعيشون في الطريقة نفسها. لم يكن لدى العائلة الواحدة قصور، أو أربع سيارات، أو شاليهات على البحر، بل كانوا يعيشون في طريقة طبيعية وفي حال متوسطة كما هي الحال في بعض البلدان الغربية، ولم يكن الثراء الفاحش موجوداً. ورغم امتلاك بعض العائلات ثروات كبيرة إلا أنها لم تكن تظهر ثراءها، ولم تكن من العائلات الأساسية في المجتمع في شكل عام، الأمر الذي كان يشيع جواً مستقراً بالمعنى الحقيقي للاستقرار الإجتماعي والسياسي. كان ذلك في السبعينات، قبل صدمات الحرب والنفط وانهيار العملة.

أنهيت دراستي الجامعية العام 1969 وحين بلغت 18 عاماً كوّنت آراء في الأمور العامة والسياسة مختلفة عن الأجواء التي كانت سائدة لبنان. وبدأ حينها النزاع في خريف 1969 حين اهتزت الدولة مع توقيع «اتفاق القاهرة»، وبقيت تهتز ستّة أعوام حتى وقعت.

كنت أرى هذا المسار التنازلي، ومنذ ذلك الوقت أصبحت ضد انفلاش السلاح الفلسطيني على الأراضي اللبنانية، وضد تفكيك مؤسسات الدولة وابقاء مجموعات غريبة وغير مسؤولة تقرر حياتنا ومستقبلنا. لكنني كنت في الوقت نفسه عروبياً بالمعنى العام للكلمة.

• ألم تكن قريباً من حزب أو من جمعية معينة؟

– لم أدخل في أي حزب أو جمعية. حتى في الجامعة، حين انقسم البلد في شكل صعب ولم يعد في إمكانك أن تعبر عن رأيك الفردي بحيث إما تكون منتمياً إلى هذا المد الكبير لدعم الفدائيين ومنظمة التحرير والمنظمات الأخرى وإما تكون «انعزالياً» مسيحياً، كنت مستقلاً، وكنت من المسلمين القلائل الذين لا يريدون تسييد الفلسطينيين على لبنان.

• كيف انتقلت من طرابلس إلى بيروت وماذا تعني لك بيروت؟

– في الستينات، وتحديداً حين كان عمري 17 عاماً فقط، كنت في طرابلس حيث ولدت وتربيت، لكن عيني كانتا واسعتين وتريان أبعد. بالطبع، لم يكن التلفزيون موجوداً، لكنني كنت مشتركاً في مجلات أجنبية رئيسية مثل «نيوزويك» و«تايم مغازين» ولم أكن بعيداً من الحضارة العلمية.

والدي كان تاجراً ومصدراً للحمضيات، عصامياً، عمل بمفرده منذ السادسة عشرة حتى سن 82 عندما توفي. كان رجلاً ذا هيبة يأتي إليه الناس لحل مشاكلهم، وكان من وجهاء البلد، ليس لأنّه من عائلة سياسية أو كبيرة، بل لأنّه اوجد لنفسه حيثية في المجتمع التجاري. والوالدة من عائلة كرامي، وقريبة الرئيس عمر كرامي. نحن خمسة اخوة وأنا الأوسط. جميعنا تعلّمنا وتخطّينا الماجستير.

بيروت كانت نقلة مهمة في فترة مهمة من حياتي. وصلت إليها في العام 1970 وبقيت فيها حتى العام 1975. كنت موجوداً في بيروت خلال الأعوام الفاصلة بين «اتفاق القاهرة» في 1969، والانفجار في 1975.

كنت أرى كيف أنّ الأمور تسير نحو الانفجار. ورغم كل ذلك، كانت بيروت مدينة عظيمة فيها حركة مهولة. كان ذلك حين لم يكن في العالم العربي مدن أخرى تنافس بيروت كما اليوم. كانت عظيمة رغم أنها كانت تغلي اجتماعياً وسياسياً وامنياً. كانت مليئة بالاثارة والحياة.

درست خمسة أعوام في الجامعة الأميركية في بيروت وبدأت في إعداد رسالة الماجستير قبل انهيار البلد ولم أتمكن من متابعتها. وفي صيف العام 1975 كنت أمضي العطلة في طرابلس، حين اندلعت الأحداث الكبيرة واغلقت المعارك طريق طرابلس بيروت. بقيت ما يقارب عام ونصف العام لا أستطيع الذهاب جنوباً حيث المسيحيون المتحالفون مع سورية، ولا شمالاً حيث سورية الناقمة على المسلمين. أشهر طويلة ننتطر في الفترة العصيبة بدون كهرباء، وخلال هذه الفترة كنت منعزلاً، فأنا في طبيعتي لست مشاركاً او سياسياً بالمعنى الحزبي.

• كيف ومتى انتقلت من طرابلس إلى الولايات المتحدة التي ستمضي فيها نصف عمرك؟

– في العام 1976 قررت السفر إلى الولايات المتحدة لاكمل دراستي. لكنني لم أتمكن من الوصول إليها بسبب عدم توافر خدمات الهاتف والبريد، فسافرت الى المملكة العربية السعودية وبقيت هناك لستة أشهر.

هناك عملت براتب خمسة آلاف دولار، لأنني كنت خريج الجامعة الأميركية في بيروت واجيد الإنكليزية وأحمل شهادة في الاقتصاد، ثم تواصلت مع الجامعة في الولايات المتحدة، وجاءت الموافقة على سفري.

تركت الراتب الكبير فوراً، لأنني لم أكن أفكر في المال بل في الحصول على شهادة الدكتوراه. كنت قد خطبت زميلتي من أيام الدراسة الثانوية لينا ميقاتي، وفي العام 1976 حصلت على تأشيرة دخول وقبول في جامعة تكساس، فتزوجنا وسافرنا معاً إلى الولايات المتحدة. ومن العام 1976 حتى العام 1991 لم أزر بيروت. زرت طرابلس مراراً من طريق الشام لكنني لم أصل إلى بيروت.

• هل يمكن القول إنّك انقطعت عن بيروت؟

– ذهنياً لم انقطع عن لبنان ولم أكن مغترباً. كان من الصعب قراءة صحف لبنانية بسبب التأخر في وصولها إلى الولايات المتحدة نحو اسبوع، وإذا رغبت في تناول طبخة لبنانية كنت أذهب الى مطعم يوناني للحصول على طبق مشابه للأطباق اللبنانية. لكن ثورة الاعلام والتكنولوجيا، بعد أعوام، عادت وقربتني في طريقة مباشرة من لبنان.

أذكر هنا أنّه في العام 1976 سافرت إلى تكساس وكانت أوضاع والدي المادية جيدة. لكنه كان يعيل اخوتي الأربعة في جامعات أميركية في لبنان والولايات المتحدة. وكنت محظوظاً جداً، ففي الاسبوع الاول من وصولي الى الجامعة تم تعييني في وظيفة مساعد بروفسور، المهنة التي ساعدتني لأكمل دراستي في الجامعة. وفي العام الثاني بدأت التدريس فيها. كانت أجمل خمسة أعوام في حياتي، حيث الأمان والهدوء والمال، بعيدا من لبنان الحرب والخوف والدمار. وحين ارتحنا مادياً انجبت زوجتي الطفل الأول في تكساس، وقبل أن ينهي عامه الأول حصلت على الدكتوراه، وتلقيت عرض عمل من صندوق النقد الدولي في واشنطن، فذهبت إلى هناك وكانت نقلة نوعية. بقيت أعمل في صندوق النقد الدولي 11 عام تنقلت خلالها بين مهمات عدة. وفي العام 1993 أصبحت مستشار مجلس الإدارة. بين العامين 1991 و1993 جئت إلى لبنان مرات عدة كمسؤول عن منطقة الشرق الأوسط في الصندوق. كنت آتي لاعطاء نصائح اقتصادية أو للتشاور.

في تلك الفترة، وفي الثمانينات تحديداً، كانت وفود لبنانية عدة تأتي إلى صندوق النقد الدولي للتشاور، من بينها ادمون نعيم، ولاحقاً في الثمانينات كان يأتي فؤاد السنيورة كمسؤول عن لجنة الرقابة على المصارف، وفي العام 1992 أصبح وزير مال وصرت أتواصل معه، وعملت مع بعض الأشخاص المشتركين بين واشنطن ولبنان مثل نديم المنلا الذي عمل أيضاً مع الرئيس فؤاد السنيورة. كما عملت مع باسل فليحان الذي كان صديقا لي.

• كيف صرت نائباً لحاكم مصرف لبنان؟

– في اوائل العام 1993 كان رفيق الحريري قد أصبح رئيساً للحكومة وقام بزيارة إلى واشنطن حيث عرض علي أن اكون نائب حاكم مصرف لبنان. كنت قد تعرفت إليه للمرة الأولى في الثمانينات عندما أتى إلى واشنطن في زيارة عامة، وكان بصحبته فريد مكاري، صديقي اثناء دراستي الإبتدائية في طرابلس.

كان العرض خطوة كبيرة لي لانني كما ذكرت كنت منقطعاً عن لبنان. وكان انتقالاً نوعياً لي ولعائلتي، لكنني قبلت من دون أي تردد، ليس بسب الراتب العالي، فالعمل في صندوق النقد أعطاني الكثير، وخصوصاً الحياة المستقرة والمنزل الكبير الذي كنت اسكنه والحياة على الطريقة الأميركية.

وافقت لأنّني خلال الفترة الممتدة بين الثمانينات واوائل التسعينات استعدت اهتمامي بالأمور العامة أي بالوضعين السياسي والاقتصادي، وعاودت متابعة المواضيع العامة سواء في لبنان، أو في بعض الدول العربية والعالمية.

عند عودتي إلى لبنان في اوائل 1993 كانت حياتي في بيروت صعبة. فالنفايات في كل مكان والكلاب تملأ وسط بيروت والكهرباء والاتصالات منقطعة، وكان صعباً على الأولاد دخول مدارس طريقة التعليم فيها مختلفة كلياً عن طريقة التعليم في الولايات المتحدة.

كان قراراً كبيراً لكنه واضح في ذهني وهو العودة إلى الوطن. قررت أن اصبح جزءاً من هذا المسار الجديد الذي بدأه الشهيد الحريري، وكنت مؤمناً بوجود قضية في لبنان الذي لا يريد استعادة الماضي بل التعويض والانطلاق من جديد. كنت أرى هذا المسار المهم والكبير الذي يسلكه لبنان والمستقبل المزدهر الذي ينتظره في السبعينات، ولكن عندما وقع لبنان في الحرب حزنت في داخلي، لذا حين عدت كنت اؤمن باستعادة هذا المسار وتعويض الوقت الضائع. الواقع انني لم اشعر بأنني أتسلّم وظيفة بل بأنني في مهمة وطنية.

عملت مع فريق صغير اختاره الرئيس الحريري واعتبره الفريق الاقتصادي، وكان يتألف من وزير المال فؤاد السنيورة وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وأنا نائب الحاكم. في البداية، كان الفضل شلق في مجلس الانماء والاعمار وكان نديم المنلا مستشار الرئيس السنيورة. أما باسل فليحان فكان لا يزال صغيراً ولم يدخل الفريق إلا لاحقاً.

كان الفريق يعمل كأنه في مهمة عالية الأهمية هدفها تعويض ما فات. كنت أرى البلد ينطلق، لكن بالطبع مع مطبات كثيرة سواء في المشاريع الكبيرة كالمطار، و«سوليدير» والاوتوسترادات، أو في المشاريع الأخرى في القطاع الخاص كالمطاعم والفنادق التي فتحت أبوابها من جديد. وما هي إلا بضع أعوام حتى كان لبنان يتلألأ حياة في العام 1997.

• كيف ومتى صرت سفيراً للبنان في الولايات المتحدة؟

– كنت أمارس رياضة التزلج في فاريا مع عائلتي لأنّ الأولاد كانوا اعتادوا على ممارسة هذه الرياضة في الولايات المتحدة. رنّ هاتفي النقال، وكان الرئيس الحريري الذي أبلغني برغبته في عودتي الى واشنطن كسفير للبنان. سريعاً وافقت قبل أن أستشير أولادي وزوجتي. صحيح أنني كنت قررت العودة إلى لبنان، لكن العمل كسفير ليس بعيداً من العمل في لبنان، ويندرج ضمن إطار القضية نفسها. وما هي إلا أسابيع حتى كنت في واشنطن. أحد أبنائي رفض الرجوع إلى الولايات المتحدة واختار البقاء في لبنان، لكنني رفضت وأخذته معي.

• أخبرنا عن أولادك؟

– لدي ولدان، البكر من مواليد العام 1981 والأصغر من مواليد 1984. الأولاد يأخذون أشياء كثيرة من الأهل من دون ان يشعروا بذلك. فولداي، إذا صادفتهما في الثمانينات والتسعينات في الولايات المتحدة لا تميّز بينهما وبين الأميركيين، سواء في الشكل او اللغة او اللهجة. فقد ولدا وتربيا وعاشا هناك، لكن لديهما رابطاً غير مرئي بتاريخنا أنا ووالدتهما، وعقلهما الباطن مرتبط بلبنان. رغم ذلك، حين وصلنا إلى لبنان وجدا أنّ الحياة صعبة واصطدما باشياء مزعجة، فكرها لبنان وبشراسة في العام 1993. كأنني اقتلعتهما من جنة الولايات المتحدة ورميتهما في نار لبنان وقلت لهما أن يعيشا هنا… لكن مع الوقت ارتبطا بلبنان كثيراً. لذا، في العام 1997 رفضا العودة إلى الولايات المتحدة، خصوصاً الصغير الذي أمضى الأعوام الأربعة الأخيرة، وهي أعوام مراهقته الأولى، في لبنان. لم تكن العودة سهلة.

وحين عدنا، كانت حياة السفير، في المدينة واشنطن، أكثر صعوبة من حياة المدير في صندوق النقد، الذي يعيش في بيت كبير في الضواحي. كان مزعجاً للولدين الترف الذي عشناه، سواء في المنزل أو مع الخدم والسيارات والمرافقين والمدارس الخاصة والحفلات والاستقبالات. كره الأولاد هذه الحياة، وفي العام الثاني رفض البكر ان يبقى في المدرسة التي تكلف 10000 إلى 15000 دولار كل عام، وقرر أن يعود الى مدرسته الحكومية القديمة في الضواحي. كان يذهب الى مدرسته في سيارته التي يقودها بنفسه.

في اواخر العام 1998 ترك الرئيس الحريري الحكم، فكان لزاماً على كل المعينين من خارج الملاك، وخصوصاً السفراء، أن يستقيلوا بدورهم، وأنا بطبيعة الحال مرتبط به فاستقلت. قررت بعدها أن أبقى في واشنطن، وعدت إلى منزلي القديم، وعاد ولداي إلى مدرستهما ورجعت الحياة كما كانت.

بين العامين 1999 و2005 عدت الى صندوق النقد الدولي. لكنّ حياتي تغيّرت من الداخل. فأصبح 70 إلى 80 في المئة من تفكيري منصباً على لبنان. كنت عاطفياً ومعنوياً جزءاً من التوجه العام الذي بدأ ينمو في البلد بين العامين 2000 و2005 ودائماً على تواصل مع الجميع، وأهمهم الرئيس الحريري والرئيس السنيورة.

وفي 2003 قرر ابني الأصغر عمر، الذي يشبهني في التفكير، أن يعود ويعيش في لبنان وحده، ليدرس في الجامعة الأميركية في بيروت.

• كيف عدت إلى لبنان وزيراً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟

– بعد تعيين الرئيس فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة، اتصل بي وطلب مني أن أعود إلى لبنان لأعمل معه فقررت العودة.

• كيف تلقيت قبل ذلك خبر اغتيال الحريري؟

– عندما اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري كنت في الولايات المتحدة. شكل الخبر صدمة كبيرة لي وشعرت فوراً بالشوق اليه، وعرفت حينها أنني أريد المشاركة في الأحداث التي ستجري لاحقاً.

تلقيت الخبر من إبني عمر الذي اتصل بي وقال لي: «I THINK THEY KILLED JUNBLATT»، أي أنه يعتقد أنهم اغتالوا وليد جنبلاط، لأنه سمع صوت الانفجار آتياً من جهة كليمنصو، هو الذي كان في منزله في الحمراء. فبدأت مروحة اتصالات لأعرف الاخبار ورحت اتابع التلفزيون.

لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لمعرفة انهم اغتالوا الرئيس الحريري وكان يرافقه باسل فليحان القريب مني جداً. هذه الحادثة ولدت في داخلي مزيجاً من الغضب والحزن، وشعرت برغبة في التقيؤ وسادني شعور بالاحباط. بين اغتيال الحريري والانتخابات النيابية في مايو، كنت موجوداً في لبنان فكراً وقلباً، وليس في الولايات المتحدة. شعرت برغبة عارمة في العودة، وعندما اتصل بي الرئيس السنيورة لم أتردد لحظة واحدة. شعرت بما شعرت به حين عرض عليّ الحريري العودة، شعرت بأن لديّ مهمة جديدة.

عدت في يوليو من العام 2005 واستأجرت منزلاً صغيراً لأن منزلي كان مؤجراً. كنت أنا وزوجتي فقط، وبقي ابني البكر في الولايات المتحدة فيما ظل الأصغر مقيماً هنا في شقته الخاصة في الحمراء.

لكن اليوم أصبح الأمر معكوساً. فقد سافر الاصغر الى الولايات المتحدة ليكمل دراسته، والبكر عاد إلى لبنان قبل حرب يوليو 2006 بيوم واحد. الأصغر سافر صباح 12 يوليو والأكبر عاد قبل بدء الحرب بساعات، ولا يزال هنا وحصل على ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الاميركية في بيروت ويعمل في لبنان. واليوم، إذا سألتني اين سيكونان طوال حياتهما لا أعرف الإجابة ولا أعرف أنا أين سأكون في الآتي من الأيام.

• ماذا تقرأ، وماذا تحب أن تأكل، وهل يبقى لك وقت لتعيش حياتك الخاصة؟

– الذين يشبهوننا ويعيشون حياتنا يخسرون الكثير. وأنا خسرت الكثير، إذ لم يعد لدي الوقت الكافي لمن حولي، وصارت صداقاتي لها علاقة بالعمل والسياسة أكثر من الأمور الشخصية. ما عاد لدي الوقت اللازم لممارسة هواياتي، كالقراءة. كنت اقرأ الفلسفة والكتب العلمية، بالإضافة إلى أن حياتي الاجتماعية باتت سطحية، وخسرت الخصوصية. لا يمكنني مثلاً أن ألبس «الجينز» وأنزل إلى مطعم عادي مع أصدقائي كما في السابق. كما أكره كثيراً المرافقة الأمنية.

أشعر بفراغ كبير إذا لم أسمع أغنيات أم كلثوم وفابيان، وصرت نادراً ما أذهب إلى السينما التي أحبها. أما أكلتي الأطيب بعد «السوشي»، فهي الكوسا باللبن.

• سؤال أخير لا يخلو من غرابة… ثمة وصمة إذا صح التعبير تطبع وزير المال في لبنان، فهو يتهم بأنّه سبب «مصائب» الشعب اللبناني كلّها، والمقصود طبعاً الرئيس السنيورة. كيف تعاملت مع هذه «الوصمة» وهل أثرت على وزارتك؟

– عندما قرر الرئيس فؤاد السنيورة تعييني وزيراً للمال بذلت جهداً كبيراً لعدم تعييني وجربت أن يتم اختيار شخص آخر لهذا المنصب، وفعلاً قمت ببعض المقابلات مع أشخاص من الطائفة السنية لديهم الخبرة. لكن المطلوب كان صعباً، فأن يكون الشخص ملماً بأمور القروض الدولية ويعرف كيف يتعاطى مع ملفات الداخل والخارج وغيرها، أمر لم يكن متوافراً في كثيرين. كنت أعلم أن وزير المال «عتّال» الحكومة، فإما أن يكون كذلك وإما يقرر الاستفادة شخصياً وسياسياً. بقيت وزيراً للمال لمدة عام ونصف العام، أصارع هنا وهناك، وكان هدفي ان اترك الوزارة بأقل ضرر ممكن، بسبب حذري من هذه الوصمة.

طرح في الحكومة الجديدة أن أبقى وزيراً للمال، لكنني طلبت من الرئيس سعد الحريري أن أكون وزير دولة يكلف ملفات معينة، وقلت له أنني أستطيع أن أكون إلى جانبه من دون أن أمسك بوزارة المال. ولكن وزارة الدولة للطائفة السنية ذهبت إلى رئيس الجمهورية، وها أنا مستشار للرئيس الحريري. ولأنني رجل مهمات، فإنّ مهمتي الآن مساعدة الرئيس سعد الحريري في كل ما يحتاج إليه مني وأستطيع ان اقوم به. الظروف اليوم تقتضي مني هذا النوع من العمل. خبرتي وتاريخي اضعهما في تصرف الحريري، وما دمت قادراً على العطاء والحريري يحتاج الي فأنا موجود كمستشار يعطي رأيه.

نشر هذا الحوار في 4 نيسان 2010 في جريدة “الراي” الكويتية.

السابق
اطلاق نار في اسواق طرابلس ومسلحون يجوبون الشارع ويطلقون الرصاص
التالي
هل من صفقة حكومية – رئاسية شاملة؟