أخطأ الذين قلّلوا من أهميّة التفاوض بين إيران وكلّ من دول مجلس الأمن وألمانيا، لا سيّما منها الولايات المتّحدة. لكنّ الخطأ الأكبر هو الذي ارتكبه مَن اعتبروا أنّ الأمر بات محسوماً، وأنّ النتيجة قد قُرّرت سلفاً، خصوصاً بينهم من فركوا أيديهم غبطة وحبوراً بـ»استسلام» أميركيّ وغربيّ أمام رغبة إيران. وقد انطوى الافتراض هذا على خطأ مؤدّاه أنّ إيران وحدها عصيّة على التنازل، وأنّ قوّتها التي تتيح لها ذلك نابعة من تماسك لا يأتيه التناقض من يمين أو يسار. ووفقاً للسيناريو إيّاه فإنّ الخصوم الذين يفاوضون طهران لاهثون وراء تنازلاتهم التي يمليها عليهم ضعف عميق.
وبعض الخطأ هنا نابع من أنّ أصحاب تلك الفرضيّة يخلطون بين مبدأ التفاوض ومبدأ الإرهاب، مثلما يخلطون بين الانسحاب والتنازل. فإذا صحّ أنّ قتل جنود غربيّين، على أيدي إرهابيّين مدعومين من طهران الخمينيّة أو دمشق الأسديّة، يجعل الدول التي ينتمي الجنود إليها تنسحب من الميدان أو تنكفىء عنه، صحّ أيضاً أنّ ذلك لا ينعكس بالضرورة تنازلاً مكرّساً في تفاوض «محترم». وفي هذا المعنى فإنّ تطبيق «مبدأ الخمينيّ – الأسد»، الذي عرفناه خصوصاً في الثمانينات اللبنانيّة خطفاً للأجانب ونشاطاً إرهابيّاً ضدّ متعدّدي الجنسيّة، لا ينطبق على جنيف أو أيّ جنيف آخر.
والحال أنّ الأحداث التي تتلاحق، منذ ابتداء التفاوض، تنمّ عن أنّ تذليل المشكلة ليس بالبساطة التي توصف فيها، وأنّ «تحسين شروط التفاوض» قد يفيض عن السيطرة ليصبح إنهاء لكلّ تفاوض، لا بل أنّ الجسم السياسيّ والإيديولوجيّ الإيرانيّ قد لا يحتمل، هو ذاته، هذا التفاوض، فكيف، والحال هذه، يحتمل نتائجه؟
ذاك أنّه فيما كان المرشد الأعلى خامنئي يدين المطالبة بالحرّيّات، راحت تتوالى تصريحات القادة العسكريّين التي تستهدف تغريدات وزير الخارجيّة محمّد جواد ظريف. فقد أعلن قائد ميليشيا الباسيج، محمّد رضا نقدي، أنّ «القوّات الإيرانيّة تملك أسلحة مذهلة جدّاً ولا تُصدّق، يجهل العدوّ الكثير منها، وسترغمه على رفع يديه مستسلماً». أمّا حسين سلامي، نائب قائد «الحرس الثوريّ»، فتحدّث عن «مرحلة حسّاسة جدّاً تواجهها طهران»، منبّهاً إلى أنّ «الغفلة قد تهدر إنجازات». وبعدهما أدلى بدلوه محمّد علي جعفري، قائد «الحرس الثوريّ»، فتجاوز ظريف إلى الرئيس روحاني نفسه: ذاك أنّ على الأخير ومفاوضيه أن «يصونوا دماء الشهداء ويتمسّكوا بنهج الصمود والمقاومة».
وفي هذه المعمعة، «كشفت» طهران عن إلقاء القبض على «جاسوس» بريطانيّ في محافظة كرمان، جنوب شرق البلاد. وقد بات معروفاً بموجب خبرات ترقى إلى العهد الستالينيّ كم أنّ «كشف» الجواسيس في الأنظمة المغلقة هو كشف عن تأزّم في أوضاع تلك الأنظمة ذاتها. وتأزّم كهذا هو ما دلّ إليه عضو التكتّل النيابيّ الأصوليّ، أبو القاسم جراره، حين وضع شروطاً تعجيزيّة على مفاوضي بلاده، مطالباً أعضاء المجلس بالتصويت على لائحة قانونيّة تجبر الحكومة على «تلبية احتياجات إيران من الوقود النوويّ». أمّا ظريف نفسه فاضُطرّ، في وقت واحد، إلى توجيه رسالتين، واحدة إلى الولايات المتّحدة التي وسّعت عقوباتها على إيران، معلناً أنّ بلاده ستتابع المفاوضات «جدّيّاً»، وأخرى ضدّ متشدّدين يوزّعون «اتّهامات مجحفة» ويعلنون «موت اتّفاق جنيف قبل ولادته»، متعهّداً «الردّ في الوقت المناسب». وهذا غيض من فيض ما يجري في إيران اليوم.