يتخلون عن الشراكة ليصبحوا أقلية!

اضطهاد المسيحيين

لم يشعر مسيحيو لبنان أنهم أقلية يوم إعلان لبنان الكبير ثم يوم استقلاله. علماً أن بعضهم كان يخشى تحوّلهم أقلية مستقبلاً ولذلك تبنى مقولة “اعتزّ لبنان كلما صغُر واهتزّ كلما كبُر”. ولا يخفى ما في هذا القول من تلازم بين لبنان ومسيحييه من حنين إلى لبنان الصغير الذي خلقته الدول الكبرى بعد الحرب المسيحية – الدرزية التي نشبت عام 1860. ولعل في إصرار البطريرك الماروني في حينه على التمسّك بلبنان الكبير أمام سلطات الانتداب الفرنسي ما يؤكد غياب الشعور الأقلوي عند المسيحيين، ولا سيما الموارنة الذين كان المتحدث الأول باسمهم في ذلك الحين، أو على الأقل الأبرز. ولعلَّ في عدم إقدامهم على تأسيس دولة أقلوية مشابهة لدول عدة قامت في محيط لبنان دليل إضافي على شعورهم أنهم أكثرية. علماً أن أكثريتهم في ذلك الوقت واستناداً الى الأحصاء اليتيم عام 1932 لم تكن كبيرة. وحسناً فعلوا بذلك، إذ أنهم يرون اليوم بأم العين إنهيار دولة على حدودهم بسبب نظام أقلوي رغم مرور نحو 50 سنة على قيامه، ورغم “الاغطية” القومية العربية والسياسية (الاشتراكية) التي استعملها لتبرير حكمه الأكثرية الإسلامية السنية في بلاده، وللمزايدة على الأكثرية الإسلامية نفسها في العالم العربي. لكن الخطأ الذي ارتكبه مسيحيو لبنان كان اعتقادهم ان أكثريتهم دائمة وأن أقلوية المسلمين على تنوعهم ستستمر. فاحجموا عن تطوير الدولة وتحديثها وتعزيز نظامها الديموقراطي باشراك كل ابنائها في السلطة بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية. وأدى ذلك إلى تذمر إسلامي تحوَّل نقمة مع الوقت أحيّت المواقف السلبية السابقة للاستقلال من لبنان المستقل، ووفرت للفلسطينيين فرصة تحويل لبنان ساحة أساسية للكفاح المسلح ضد اسرائيل مغتصبة وطنهم، من خلال تشجيع مشاعر النقمة عند المسلمين وتقديم كل دعم يحتاجون اليه بدءاً بالسلاح والمال لتغيير الواقع في لبنان أو لتعديله، بحيث يصبح في مصلحتهم أو أكثر عدالة لهم. طبعاً وقعت الحرب الأهلية وغير الأهلية بعد ذلك ولم تنته الا بعد نيف و15 سنة، ولكن بعدما حولت شعب لبنان شعوباً، وبعدما جعلته تحت وصاية سوريا، وبعدما أدَّت تصرفات الأخيرة بل لعبها في التركيبة اللبنانية المتنوعة الى تكوّن شعور أقلوي قوي عند المسيحيين في لبنان. وهذا الشعور ازداد حدة بفعل ما يتعرَّض له مسيحيو مصر من ظلم، وما تعرَّض له مسيحيو العراق مرات عدة من قمع وقهر، وما يمكن أن يتعرَّض له مسيحيو سوريا من قمع وظلم وتهجير جراء وقوفهم مع نظام أقلوي وجراء فكر اسلامي متشدد جداً في الوقت نفسه. وهو يزداد في لبنان اليوم للاسباب نفسها ولأخرى كثيرة. وقد يكون ذلك أحد أسباب تصدي مرجعيات دينية وسياسية مسيحية لبنانية مهمة لقيادة حملة الدفاع عن الأقليات المسيحية في العالم العربي الاسلامي.
هل التصدي المذكور في محله؟
تعتقد شخصيات لبنانية واعية وحكيمة، ومن دون انكار الأخطار التي تهدد مسيحيي وطنها، ان هذا التمسك خطأ كبير. ذلك أن الحروب الأهلية وما أعقبها من تسلّط سوري انتج تسلّطاً داخلياً معيناً، ومن إنسحاب سوري قد ينتج تسلطاً داخلياً آخر، أـضعفت الدور المسيحي في لبنان. لكنها أبقت المسيحيين شركاء بنسبة جيدة. وهذا ما عليهم أن يحافظوا عليه. فالتصرف كأقلية يعني ضمناً قبول عدم المساواة في المواطنية في دولة بل منطقة عالمثالثية متخلّفة. ويعني أيضاً خسارة موقع الشريك. وطبيعي أن يقصّر ذلك مدة بقاء المسيحيين في لبنان. وهو موقع لا يمتلكه المسيحيون العرب في الدول العربية الأخرى. وهو قابل للاستمرار إذا أحسن المسيحيون القيام بدور التوازن الذي من دونه يبقى لبنان في متاهة الحروب. وسبب استمراره وجود “شعبين” لبنانيين شيعي وسني بينهما ما صنع الحداد منذ نيف وثلاثة عشر قرناً، وسيبقى ما صنعه بينهما الى مدة لا يمكن التكهن بها.
في اختصار، الشريك المسيحي، وليس الأقلية المسيحية، في لبنان ضرورة وطنية وحاجة لهم ولشركائهم المسلمين وخصوصاً السنة والشيعة، والتفريط بالشراكة سيسجلها التاريخ. طبعاً لا يعني ذلك الإحجام عن مساعدة المسيحيين في الدول العربية لتحسين أوضاعهم، وهي أمر ضروري. لكن الضروري أيضاً أن لا يصبح مسيحيو لبنان رأس حربة لأقليات مسيحية عربية، ومن خلال بعضها لأنظمة أقلوية تسبب بعضها بما يعانونه في لبنان منذ عقود، وقد يتسبب رحيلها بمعاناة أكبر لهم.

السابق
لماذا قرّرت عُمان الانسحاب؟
التالي
الجيش الحر: حزب الله يدفع ثمن تورطه في سوريا