مسرح الجيب في مونو، لا يتسع لأكثر من ستين مشاهد، يشكلون حول مسرحية “رسالة حب” لفرناندو أرابال، التفافاً حميماً حول هذه الدراما الجارحة كما ترجمها أنطوان أشقر وأخرجها، وفيّة ليس فقط للنص الإسباني بل بما أوحته إليه من مشاعر إنسانية فذة، سادية – مازوشية، متناحرة في ما بينها، مشاغبة وعاشقة، عنيفة وحنونة، واقعية وخيالية، صادحة من بئر امرأة ملتاعة، مشلّعة، أجادت رلى حمادة في أن تكون هي.
ماذا بقي من حرب إسبانيا الأهلية الضارية في ذاكرة المرأة، غير رسالة حب وهمية أم حقيقية، تسلّمتها من إبنها في ذكرى ميلادها بعد ثماني سنوات من الغياب، تقرأها وتعيد قراءتها. ومن سطورها يعلو صوت الإبن، معيداً بكرة الحياة إلى سنوات خلت، يقتحم خلوتها، تذكّره بحبها له، بعناقها المجنون لجسده النامي، ويعود من بين ذراعيها مستيقظا ًعلى شكوك لطالما ساورته بأنها هي من حرّض على والده يوم تم اعتقاله العام 1939.
رلى حمادة – الأم، هي في حزمة الضوء ترندح لحن “ميلاد سعيد” وعلى أساريرها غبش يحيّر المشاهد بين الهذيان ولوعة الفراق. الرسالة هي المدماك الذي عليه رفع أرابال عن أنقاض الحرب، تراجيدية الحب والخيانة، الذنوب والسعي إلى التبرئة منها. فهل تكون رسالة الحب هذه من إبن إلى أمه، هي صرخة شعب أقام محكمة إلى صانعي الحروب ومدمري الأوطان، لكن للحروب مبرراتها العبثية؟
هذه هي رلى الرائعة في دور الأم ترندح أغنية الميلاد السعيد وتتخيّل الشموع أمامها فتطفئها وهي تناجي الابن: “يا حبيبي يا أمي شو مشتاقة شوفك. كل اللي عشناه محفوظ بالذاكرة، بيرجع على سطور الذاكرة…”.
الواقف في العتمة، الابن (جاد خاطر) يتدخل سطراً تلو آخر من سطور الرسالة، فتغدو القراءة حواراً حياً لاذعاً كالسوط، عنيفاً كالحب الممنوع، تلتمس فيه الأم عطفاً من هذا الولد الذي عشقته حتى ارتكاب خطيئة الزنى، وفي بعده عنها يستيقظ على ما جنته من آثام. أما تقول له:
” كيف كسرتللي قلبي أنا اللي حبّيتك” ويجيب: “ليش ما خلّيتيني إكتبلو. كم من الرسائل أرسلها إلي ولم أعرف بوجودها”.
رلى حمادة في استيطانها هذا الدور العنيف حتى الجنون، تخاوت بنسيج أهوال الحرب حتى صارت بالمعنى المجازي لرسالة الحب، المدينة الخاطئة. فمرات سمعنا الابن يذكّر أمه، بالأم العاهرة، تلك التي أهلكت شعبها، فهل تكون الأم المحمّلة بالذنوب،الممزقة، المصلوبة على اتهامات إبنها هي ذلك الوطن الذي أغرق شعبه في الموت والفراق والتعذيب؟
أنطوان أشقر كان بارعاً في استيعاب فكر أرابال، بين طيات رؤاه الوجودية، تاركاً للمشاهد حرية حياكة رسالة حب كما تسمح بها عبثية أرابال ونظرته السوريالية إلى العلاقة بين الانسان وذاته، علاقته مع الآخرين. أما يقول الابن: “تيكون إلنا وجود لازم نكون خونة”.
أين هو في عذاباته منها هي التي تود استرجاع الزهو والعلاقات الطيبة مع ابنها؟
جميل ذلك المشهد، الذي على نغم الترافياتا الذي ترندحه الأم، يغدو إيقاع الفالس رمزاً للوقت المسرع، تلتقطه بيديها حتى لا يموت. لكن الوقت للحنين، تذكّره أنه كان يتغزّل بها ويشبهها بلوحة لفرنسيسكو غويا. وكانت تطرد كل فتاة تأتي إلى البيت لأجله.
المفردات التي كانت تكر بين أصابع الأم والابن كحبات المسبحة، لم تكن عابرة درب، بل في كل منها مذاق لمذاقات عدة، لا نكاد نتوقف عندها في استنطاق مغازيها حتى تلفحنا عبارة أخرى، نستشف منها ما للمخيّلة من علاقة حميمة مع الواقع.
جاد خاطر الجديد في عالم المسرح، عاش دوره في “رسالة حب” هذه، لا كما تلقاه بإرشادات من المخرج أنطوان أشقر أستاذه في المسرح وحسب، بل كان يستمد من رلى حمادة طاقات تدوزن أداءه بما لها من جاذبية هائلة في استيطانها الدور، لا أن تتفصّل على مقاساته، بل أن يجد فيها الشخصية المرجوة، فيغدو على مقاس امرأة ملوّنة بنساء عديدات في واحدة، الأم العاشقة، الخائنة، المذنبة، البريئة، الفراشة المزهوة بأنوثتها، إلى أن تنقشع الحقيقة. إمرأة في مصح للمجانين تستعيد ذكريات من أمس بعيد على ترنيمة “ميلاد سعيد”.