تصريف مقيّد أم تعـويم ممنوع؟

بين الأفرقاء أكثر من باب على شغف الجدل السياسي والقانوني في انتظار أوان تأليف الحكومة، المعلق إلى أمد غير منظور بعدما دخل التكليف البارحة شهره الثامن. لا يقتصر الخلاف على التأليف ـــ وقد أضحى استحقاقاً إقليمياً ـــ بل أيضاً على تعطيل دوري الحكومة ومجلس النواب

لم يرمِ تبادل الرسائل القصيرة، والمعبّرة، بين الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي إلا إلى تأكيد الخلاف السياسي على تفسير نطاق تصريف أعمال حكومة مستقيلة، أكثر منه البحث عن منفذ لتباين قانوني غير موجود في الواقع بينهما، أو بين قوى 8 و 14 آذار. اكتفى رئيس المجلس أمام زواره مساء الثلاثاء بعبارة مقتضبة حيال مطالبة رئيس الحكومة المستقيلة إياه بدعوة البرلمان إلى الالتئام لتفسير تصريف نطاق الأعمال. حينما سئل عن رأيه في دعوة ميقاتي، قال بري إنه ينتظر زيارته له ما دام رئيس الحكومة المستقيلة قال إنه سيفاتحه في الموضوع عندما يجتمعان. ثم ارتأى ردّ التحية بمثلها بأن دفع الجدل المحدود بينهما في وجهة مختلفة: هل المقصود فعلاً تفسير نطاق تصريف الأعمال، أم تعويم الحكومة المستقيلة؟

لم يشأ رئيس المجلس الإفصاح أمام زواره عن موقفه من طلب ميقاتي. وعلى طريقة الآباء اليسوعيين، ردّ على السؤال بسؤال. إلا أن الزوار استنتجوا منه بضع ملاحظات:

أولاها، تمسكه بجواز انعقاد مجلس الوزراء ومثول الحكومة أمام مجلس النواب في مرحلة استقالتها. كلا الانعقادين يتمسك به بري، سواء بعد تذليل خلافه مع تكتل التغيير والإصلاح على ملف النفط والتوافق على مناقشة عروض التلزيم في مجلس الوزراء، أو بتمسكه بجدول أعمال الجلسة العامة للبرلمان تمثل فيها الحكومة. وإذ يوافق على التحديد القانوني للنطاق الضيق لتصريف الأعمال في مجلس الوزراء ما خلا حالتي العجلة والظروف الاستثنائية، يرى اختصاص مجلس النواب في الانعقاد مطلقاً لا تقيّده استقالة الحكومة.

ثانيتها، انقضى إلى غير رجعة زمن تعويم حكومة مستقيلة لأسباب سياسية ودستورية في آن واحد.

في العقود القريبة الأخيرة عُوّمت في ظل دستور ما قبل اتفاق الطائف حكومتان فقط، هما حكومة الرئيس سليم الحص عام 1978 في عهد الرئيس إلياس سركيس بعدما تراجع رئيسها عن الاستقالة، فاستمرت إلى السنة التالية، وحكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1987 على أثر اغتيال رئيسها، وكان قد استقال قبل شهر، ما لبثت صدمة اغتياله أن أوجدت سابقة صدور مرسوم يسمي الوزير سليم الحص رئيساً لها، فيسارع للفور إلى سحب استقالة كرامي، ويُعهَد إليه في المرسوم الجديد ترؤس الحكومة إلى حين تأليف حكومة جديدة.

ثالثتها، في ظل رئيس مكلف تأليف حكومة جديدة، لا يصح تعويم الحكومة المستقيلة ما لم يعتذر الرئيس المكلف عن الاستمرار في مهمته، أو يجتمع مجلس النواب وينزع منه التكليف الذي فوّضه إليه لكونه المرجعية الدستورية التي تعيّنه.

رابعتها، ظنون رئيس المجلس في أن رئيس الحكومة المستقيلة يتحضر للاستمرار طويلاً في حال تصريف الأعمال، وربما إلى المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بين آذار وأيار 2014. لا تزال حكومة ميقاتي في رأيه تتمتع بالشرعية الدستورية وثقة مجلس النواب ـــ وإن مستقيلة ـــ كي تناط بها صلاحيات الرئاسة الأولى في حال انقضاء المهلة الدستورية من دون انتخاب خلف للرئيس ميشال سليمان.

توقفت الرسالتان المتبادلتان بين بري وميقاتي عند العبارات المقتضبة من غير أن يجتمعا بعد، ومن غير أن يبدوا فعلاً مختلفين على التفسير القانوني لتصريف الأعمال في اجتماعات يعقدها مجلس وزراء الحكومة المستقيلة أو قرارات يتخذها وزراؤها وتخضع قراراته لرقابة مجلس شورى الدولة. لكنهما يختلفان على حضور الحكومة المستقيلة جلسات مجلس النواب. بمقاطعته ساحة النجمة، يلتقي ميقاتي في هذا الموقف مع الرئيس فؤاد السنيورة الذي يصرّ على عدم تضمين جلسة عامة لمجلس النواب إلا البنود الضرورية المطابقة لنظرية الظروف الاستثنائية. إلا أن عدم حماسة ميقاتي لدعوة مجلس الوزراء إلى الالتئام، في المقابل، تستجيب موقف السنيورة.

في حصيلة تعارض المواقف هذه، لا الحكومة تجتمع ولا البرلمان يلتئم.

نظر بري إلى موقف ميقاتي في دعوة المجلس إلى تفسير تصريف الأعمال على أنه محاولة لنقل الخلاف إلى داخل البرلمان بين فريقين 8 و 14 آذار، وكل منهما يتمسك بوجهة نظر مناقضة للآخر. يتحوّل البرلمان عندئذ إلى سجال مستفيض يكرس الانقسام وتعدد الاجتهادات، من دون أن يفضي إلى تفسير موحد. لكنه يؤول حتماً إلى الحؤول دون صدور قرار تفسير بسبب تطيير أحد نصابين باتا شعارين ملازمين لانعقاد مجلس مجلس النواب أو عدمه: النصاب القانوني المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور، والنصاب الميثاقي الذي ترعاه مقدمة الدستور.

مع ذلك، لا يختلف بري وميقاتي على التفسير القانوني لنطاق تصريف الأعمال، بل على المواضيع التي يصح إدراجها في نطاق تصريف الأعمال الإدارية أو دمجها في الأعمال التصرفية. وهو التمييز الذي انتهت إليه، لسنوات طويلة خلت، اجتهادات مجلس شورى الدولة حيال جواز اجتماع مجلس الوزراء والمواضيع التي يقتضي طرقها في باب الأعمال الإدارية أو التصرفية والقرارات الصادرة عن الوزراء تبعاً لذلك. في 19 نيسان الماضي، بعد أقل من شهر على استقالة حكومته في 22 آذار، أصدر ميقاتي التعميم رقم 10 طلب من الوزراء التقيد بالمادة 64 من الدستور في معرض تصريف الأعمال بالمعنى الضيق لها، آخذاً بذلك بالاجتهادات السابقة لمجلس الشورى.

بالتأكيد، يقف الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي وراء التعميم المنبثق من جملة اجتهادات لمجلس الشورى، كان بوجي أحد المعاونين المستشارين الذين شاركوا في جمعها وتنسيقها إلى خالد قباني وخليل أبورجيلي وسليمان عيد ومحفوظ سكينه وألبرت سرحال في مجلدين أصدرهما عام 1981 الرئيس السابق لمجلس الشورى الدكتور أنطوان بارود.

في تحديد نطاق تصريف الأعمال الذي تسلح به التعميم رقم 10، شأنه في كل مرة استقالت حكومة:

«1 ـــ تظل الحكومة متمتعة بصلاحياتها الدستورية إلى حين صدور المرسوم المعلن استقالتها (قرار رقم 8، تاريخ 2 كانون الثاني 1957).

2 ـــ تجنباً للأخطار والمحاذير التي تنشأ عن الفراغ في الحكم بسبب إقالة الحكومة أو استقالتها، جرى العرف الدستوري أن يكلف رئيس الجمهورية الوزارة البقاء في الحكم إلى أن تتألف الوزارة الجديدة ويحدد نطاق أعمالها بما يسمى «تصريف الأعمال العادية». وقد أصبح هذا العرف مبدأً أصيلاً من مبادئ القانون العام واجب التطبيق في حالات فقدان الوزارة كيانها الحكومي المشروع.

3 ـــ في تحديد نطاق الأعمال العادية يجب التفريق بين الأعمال الإدارية والأعمال التصرفية بين العادي منها والاستثنائي. تنحصر الأعمال العادية في الأعمال الإدارية، وهي الأعمال اليومية التي يعود إلى الهيئات الإدارية إتمامها ويتعلق إجراؤها في الغالب بموافقة هذه الهيئات كتعيين الموظفين وتصريف الأعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزراء سوى إشراف محدود، بينما ترمي الأعمال التصرفية إلى إحداث أعباء جديدة أو التصرف باعتمادات مهمة أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت طائلة المسؤولية الوزارية.

4 ـــ تخرج الأعمال التصرفية بطبيعتها عن نطاق الأعمال العادية التي لا يجوز لحكومة مستقيلة من حيث المبدأ أن تقوم بها، باستثناء ما تعلق منها بتدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الخارجي، وكذلك الأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل محددة في القوانين تحت طائلة السقوط والإبطال. وما يبرر تدخل الوزارة المستقيلة في هذه الظروف الاستثنائية الحرص على سلامة الدولة وأمن المجتمع وعلى سلامة التشريع. في هذه الحالات تخضع تدابير الوزارة المستقيلة وتقدير ظروف اتخاذها لرقابة القضاء الإداري بسبب فقدان الرقابة البرلمانية وانتفاء المسؤولية الوزارية (قرار رقم 614 تاريخ 17 كانون الأول 1969، وقرار 341 تاريخ 19 تشرين الثاني 1979).

5 ـــ سار اجتهاد مجلس الشورى على اعتبار أعمال يمكن الحكومة المستقيلة القيام بها تلك التي لا ترتبط بسياسة الدولة العليا التي ليس من شأنها تقييد حرية الحكومات اللاحقة في انتهاج السياسة العليا التي تراها أفضل للوطن (قرار رقم 478 تاريخ 30 تشرين الثاني 1977)».

في ظلّ انقسام قوى 8 و14 آذار وتحوّل القوة الوسطية فاصلاً بينهما يمنع في الوقت نفسه نشوء أكثرية، باتت المشكلة تكمن في عدم وجود مرجعية تملك حق تقدير عامل العجلة والظروف الاستثنائية في مواضيع ينظر كل من الطرفين إليها على نحو مناقض للآخر.

السابق
مَن يُنفِّذ مذكّرة توقيف علي عيد؟
التالي
8 آذار: جنبلاط توافقيّ عن قناعة