التغيير والتطوير في الحوزة العلميّة

حب الله
لا يمكن تحقيق المشروع التغييري في الحوزات العلمية إلا بإجراء تغييرات في الفرد والجماعة، تشمل تطوير المهارات والقدرات والاهتمامات، وتوسيع دائرة علاقات الطلاب في محيطهم وحول العالم، وتوسيع دائرة "القدوة"، التي لا يجوز أن تنحصر بالمعصومين.

لا يمكن تحقيق المشروع التغييري في الحوزات العلمية إلا بإجراء تغييرات في الفرد والجماعة، تشمل عدّة أمور أبرزها ما يلي:

أولاً: القناعات، فما لم تتغيّر القناعات والفهوم والأفكار، من الصعب إجراء تغيير عملي. مثلاً يجب تغيير الفكرة التي تقول إنّه لا مشكلة في الحوزة. فلو بقيت هذه الفكرة لا يمكن إجراء إصلاح مناهجي. ويجب تغيير الفكرة التي تقول إنّ الحوزة أفضل من أيّ مؤسّسة علمية أخرى في العالم بحيث لا تحتاج إلى أحد. ويجب تغيير الفكرة التي تقول إنّ المشاكل كلّها يمكن حلّها بالرجوع فقط إلى الآيات والروايات دون مساعدة العقل الإنساني في وضع الخطط والبرامج، إلى غيرها من عشرات الأفكار التي تعشعش في الوعي الحوزوي العام، رغم تراجع الكثير منها في العقود الأخيرة.

إنّ الكثير من الفشل يكمن في وجود مفاهيم معيقة للتقدّم، ولهذا يكون الإصلاح الفكري مقدّمةً لزحزحة هذه المفاهيم، كي يمكن بعد ذلك السير في خطى التقدّم والرقيّ. وربما يكون هذا هو ما قصده الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، من ذهابه إلى أنّ إصلاح الثقافة الحوزوية الشائعة يجب أن يسبق إصلاح النظام التعليمي.

ثانياً: الاهتمامات، فما لم تصوّب اهتمامات الطلاب والأساتذة والكادر العام، من الصعب إجراء تغيير حقيقي. مثلاً: الاهتمام الفقهي والأصولي إذا سيطر على اهتمامات الحوزويين شكّل كارثة، لأنه سوف يتسبّب بتلاشي العلوم الدينية والإنسانية الأخرى كالفلسفة والكلام والأخلاق والعرفان والتاريخ والسيرة والمنطق والحديث والتفسير والرجال والقرآنيات، وغير ذلك، فضلاً عن الدراسات الجديدة. كما أنّ تركيز الاهتمام كلّه على الصراع مع تيّار بعينه في الأمّة – كالتيار السلفي مثلاً – يوجب ضمور طاقاتنا إزاء سائر الجبهات كالتيار العلماني مثلاً. فمن الضروري رفع مستوى الاهتمامات والطموحات من جهة، وإيجاد تنويع فيها وتوزيع للأدوار، بحيث تقدر الحوزة نتيجة ذلك على تغطية مساحة أكبر من الواقع.

ثالثاً: القدوات، وهذه نقطة خطيرة ولها حساسيتها الداخلية. فيجب أن نحدّد للطلاب والأساتذة القدوة التي ينبغي العمل للسير خلفها ونحوها – ومن ثم تخطّيها – من العلماء عبر التاريخ. فالقدوات المطلقة هم المعصومون لا غير، وكلّ من سواهم يكون الاقتداء به مقيّداً، وما أريده هو تعويم أكثر لقدوات نافعة لنا في هذا العصر، مثل – من وجهة نظري – الإمام الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد صادق الصدر، والشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ مرتضى المطهري، والدكتور علي شريعتي، والسيد محمد حسين البهشتي، والعلامة محمّد حسين الطباطبائي، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والشيخ أحمد الوائلي، والسيد موسى الصدر… لأننا نحتاج هذا الأنموذج اليوم.

ولا يعني جعله قدوةً أنه لا يخطئ، أو أنّنا لا نختلف معه في بعض أفكاره أو في كثير منها، أو أنّ ما أتانا به – علماً وعملاً – صار كافياً لنا، بل هذه من الأفكار الخاطئة التي ينبغي تغييرها في عقولنا، وإنّما نقصد اعتباره أساساً صالحاً للانطلاق نحو المزيد من التطوير والتقديم. والخطأ في تحديد القدوة قد يوقع في مشاكل بالغة الخطورة.

رابعاً: المهارات، إنّ الحوزة اليوم بحاجة إلى ثورة في المهارات على مختلف الصعد ذات الصلة بعملها ونشاطها، للخروج بجيلٍ فاعل ونشط وحركيّ وفيّاض بالعمل والإنتاج، فتغيير المهارات من مبادئ التطوير ومن مجالاته أيضاً.

خامساً: العلاقات، ينبغي إحداث تغيير في شبكة العلاقات، فبدل أن تظلّ علاقات الطلاب منحصرةً ببعضهم البعض، لا سيما في مرحلة تصدّيهم للبحث والدراسة في الحواضر العلمية الكبرى التي يسافرون إليها مثل مدينتي: قم والنجف، يجب على الدوام مدّ جسور العلاقات مع شرائح علمية مختلفة من الجامعيين وأهل الشعر والأدب والفنّ والتجربة لتتسع مداركهم وعقولهم، وكذلك سائر الحوزات في العالم.

وقد لاحظنا في الفترة المتأخرة، ومع الأسف الشديد، كيف أنّ طالب العالم صار يبني شبكاته الاجتماعية على أساس الانتماءات السياسية والفكرية والثقافية، فتقلّصت علاقاته حتى في الداخل الحوزوي، وهذا ما يساعد على المزيد من ضيق الأفق. إنّ السفر إلى خارج محيطنا ضرورةٌ بالغة، فكم هي فائدة أن نوفّر للطلاب بشكل متناوب أسفاراً للتعرّف على الأزهرأو جامعات ماليزيا أو تركيا أو الشمال الإفريقي وغير ذلك، فتتفتح الأذهان ويتواصل المسلمون فيما بينهم، وهكذا إلى سائر مراكز العلوم الدينية في الغرب، فيكتسب الطالب المزيد من المعرفة ويثبت في المقابل حضوره حيث يذهب.

سادساً: التخصّصات والموادّ الدرسية، وذلك يكون عبر إضافة موادّ جديدة إلى الدرس الحوزوي، لا تقف عند الفقه والأصول، بل يضاف إليهما علوم القرآن، والحديث، وعلم التفسير، وعلم الرجال، وعلم التاريخ، وعلم السيرة، وتاريخ العلوم الاسلامية، وعلم المنطق والفلسفة بمعناهما الواسع الشامل للفلسفة الوجودية والمعرفية وللفلسفة المطلقة والمضافة، وعلم الكلام والعقيدة الجديد والقديم، وعلم الملل والنحل والأديان والمذاهب، وعلم الأخلاق، وعلم العرفان والتصوّف، وغير ذلك، لتكون هذه الموادّ الدرسية مع الطالب بحيث يمكن التخصّص فيها، وتقام لها في الحوزات مراحل الدراسات العليا والبحث الخارج أيضاً.

إنّ فتح مجال التخصّص في الدراسات الدينية بالغ الأهمية، وقد أخذت الحوزة العلمية منذ عقد من الزمن بالتوجّه نحو هذا المشروع الكبير، وهي تواجه مشاكل متعدّدة في هذا السياق، كفقدان الكتب الدرسية المخصّصة لهذا العلم أو ذاك، وفقدان العدد الكافي من الأساتذة لتغطية عدد الطلاب المنتمين إلى هذا الفرع الدرسي أو ذاك.

إننا نؤمن بالتخصّص أن يطال الفقه وعلومه أيضاً، فهناك مجالات في الفقه نفسه تحتاج إلى تعمّق وتخصّص كالفقه السياسي، وفقه الدولة، والفقه الاجتماعي، والقواعد الفقهية، وآيات الأحكام، وتاريخ علم الفقه والأصول، وعلم الفقه والقانون والحقوق العصرية، والفقه والأصول المقارن داخل المذاهب والأديان وبين الإسلامي والوضعي، وغير ذلك.

والتخصّص لا يعني أن يصير الإنسان جاهلاً بالمجالات الأخرى، فهذا المفهوم نعارضه في الدرس الحوزوي، لخصوصية الملفات البحثية الدينية، بل يعني أن يحمل الإنسان في حياته ملفّات يركّز جهده عليها، ويتناول البقية بطريقة أخفّ.

إلى جانب ذلك هناك الموادّ المساعدة، التي تساعد الباحثين على تحقيق موضوعات الأحكام وغيرها، مثل علوم الفلك، والطبّ، والرياضيات، وقضايا البنوك، والبيئة، وغير ذلك، ممّا كان العلماء المتقدّمون – كما يقول بعض المعاصرين – يهتمّون به ويدرسونه كالهيئة والرياضيات والطب وغيرها، ممّا يحتاج بعضه إلى دورات سريعة وبعضه إلى برامج سنويّة أو نصف سنويّة، مثل اللغات.

*جزء من مقالة مطوّلة

السابق
أميركا والسعوديّة: حلف فاشل.. منذ 30 عاما
التالي
ميقاتي: لا تساهل في ملف تفجيري طرابلس ولا صوت يعلو فوق سلطة القانون