قبل عشر سنوات، عندما أطلق ملك الأردن عبد الله الثاني مصطلحه الشهير “الهلال الشيعي”، لم يكن يدور في بال أحد أن ما قاله هذا الملك الشاب يمكن أن يرقى الى واقع. خصوصا في ظلّ وجود أنظمة حكم عربيّة قويّة تطبق الخناق على شعوبها، مسلّحة بجيوش جرّارة ومخالب أمنيّة وتحالفات دوليّة متينة أكسبتها مناعة الى أبد الآبدين. ما جعل مشروع الهلال الشيعي خياليا في أحسن تقدير: فأين الأقليّة الشيعيّة من البحر السنّي؟
غير أنه، وبعد قيام الثورات العربيّة منذ حوالي ثلاث سنوات، وما حملته من اتجاهات اسلاميّة حادّة توّاقة الى الحكم والتسلّط، وجد بسرعة الهلال الشيعي مساره الصريح، وشق طريقه من إيران الى العراق بعد الانسحاب الأميركي منه عام 2011، وصولا الى سوريا ولبنان. صامدا بوجه انتحاريي الأنبار والفلوجة، ومتغلّبا حتى الآن على الجيش الحر وجبهة النصرة في سوريا، ومطوّعا الساحة اللبنانيّة بعد سيطرته على مفاصل الأمن والسياسة فيه .
ولمّا وجدت السعوديّة نفسها مطوّقة من حدودها الشمالية مع العراق الى الجنوبيّة مع الهجمات التي شنها الحوثيون على أراضيها وحتى حدودها الشرقيّة مع القلاقل الطائفيّة في البحرين، قامت لتتصدّى لما سمّاه اعلامها “المشروع الفارسي الشيعي في المنطقة”. لكن سرعان ما ظهر فشل هذا التصدي على المستويات جميعها.
في مقالته “تحالف شيعي صاعد مقابل تشرذم سُني قاتل”، صرخ فيصل قاسم صاحب البرنامج الشهير “الإتجاه المعاكس” منذ يومين من على صفحة موقع “إيلاف” الإلكتروني مستنهضا العالم العربي السني لمواجهة “المشروع الشيعي الإيراني في المنطقة والذي يتقدّم بثبات”، بحسب قوله وخلص مقرّا: ” فلنعترف أن هناك مباركة أمريكية لما أصبح يعرف بالحلف الشيعي الذي بدأت تتشكل ملامحه بعد أن سلمت أمريكا العراق لإيران على طبق من ذهب. ومن سلم العراق لإيران لا يمكن إلا أن يدعم الجهد العسكري الإيراني في سوريا، بدليل أن أمريكا وافقت قبل أيام على أن تكون إيران جزءاً لا يتجزأ من مؤتمر جنيف (2) الذي سيشكل الخارطة السورية الجديدة”. ويتابع القاسم حانقا: “لقد أصبح الدور الإيراني معترفاً به دولياً في سوريا. ومن الواضح أنه سيفوز بنصيب الأسد من الكعكة السورية على ضوء التقارب الإيراني الأمريكي المتمثل في الاتصال الأخير بين (الرئيس الإيراني حسن) روحاني و(الرئيس الأميركي باراك) أوباما. لنكن واقعيين: هناك تحالف شيعي صلب، ناهيك عن أنه على قلب قيادة وأهداف واحدة. وهو أكثر تنظيماً وتعاضداً من غيره، خاصة أنه أنجز حلماً راوده لمئات السنين بأن يصبح سيد المنطقة”.
وتناقلت وكالات الأنباء ما نقله بعض المسؤولين اللبنانيين والعرب الذين التقوا وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية (السفير الأميركي السابق في بيروت) جيفري فيلتمان على هامش الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك، انتقاداً حاداَ للسعودية، مؤكداً أنها لا تريد حكومة مطلقاً في لبنان.
وقال فيلتمان أمام زواره: “لم أر أوقح وأسوأ من الحكومة السعودية”، مضيفاً: “لا أعرف كيف ستواصل هذه الإدارة الحكم”. وتابع: “عندما رأوا علامات تقارب أميركي ـــ إيراني جنّ جنونهم، الى درجة أن وزير الخارجية سعود الفيصل لم يكتف بعدم إلقاء كلمة بلاده في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بل إنه لم يوزعها على الحضور”. وتساءل فيلتمان: “هل يُعقل هذا الحقد؟”.
ولفت فيلتمان إلى أن السعوديّة “لا تريد أن تسمع كلمة عن لبنان، ولا حتى اسم رئيس الجمهورية ميشال سليمان. وكل ذلك بسبب سوء إدارتها”. وأكد أنها “لا تريد حكومة في لبنان مطلقاً، وهي تعطل كل شيء فيه”.
لقد بدأت ايران بقطف ثمار سياستها العنيده والمثابرة رغم مشاكستها للغرب عبر مشروعها النووي واصرارها على التمسّك بما أسمته حقّها في “التخصيب”. ورغم تهديدها لإسرائيل بصواريخها تارة وبصواريخ حزب الله على حدودها الشماليّة تارة أخرى، بينما السعودية بدأت بحصاد الأشواك، نتيجة سياستها البدائيّة المتكاسلة القائمة على دعم عشوائي للجماعات الجهاديّة السلفيّة. فها هي المليشيات الاسلاميّة التي دعمتها في سوريا تتناحر فيما بينها بعد أن فقدت الرياض السيطرة عليها وأصبحت تشكّل تهديدا عاما للداخل والخارج، فيما قوات الأسد تستغل تشرذمها وتتقدّم على جميع الجبهات بدعم من مقاتلي حزب الله المزوّدين بالعتاد والخبرات الإيرانيّة.
هي مبارزه غير متكافئة بين قطبي الخليج العربي والفارسي. وبينما تلوح اليوم الغلبة للأخير فإن أحسن المتفائلين لا يرى الحسم السياسي أو العسكري لأي طرف من الأطراف في المدى المنظور، انما هي أرجحيّة فرضها اليوم واقع تشكّل الهلال الشيعي بعد طول أفول من على الساحة العربيّة والإسلاميّة.