قل لنا يا سماحة السيد

تطل اليوم، ونحن ننتظرك لتقول لنا ما يطمئننا إلى مصيرنا، ننتظر إطلالة، كتلك التي كنت فيها تقتحم قلقنا، فتعدنا وعداً صادقاً، نصدّقه قبل أن ينفذ.. ننتظر أن تقول لنا، ما ينزع عنا يأسنا وأحزاننا وضياعنا وخوفنا وإحباطنا وتشتتنا. ننتظر أن تكون إطلالتك اليوم، كتلك التي، في ليل العدوان الصارم، أشرت فيها إلى البحر وقلت «انظروا»، وشاهدنا ولادة معجزة الانتصار قبل اكتماله، ننتظرك، وبعضنا على يقين، بأنك تستحق قول المتنبي:

«إنْ كنتَ ما تنويه فعلاً مُضارعاً

مَضَى قَبْلَ أن تُلقى عليه الجوازمُ».

أما بعد، فليل لبنان كالح وطويل وقد يمتد أكثر، وهو ليس ليل احتلال إسرائيلي، فذاك ليلٌ قضى عليه انتصار «25 أيار»، منذ ثلاثة عشر عاماً. فلكم كانت معاناة الاحتلال باهظة ومكلفة ودامية، ولكنها إذا قيست بمعاناة الانحلال اللبناني، لبدت جلجلة مقاومة الاحتلال نزهة وديعة، إزاء مسيرة الانحدار إلى جهنم.

نحن يا سيد، ليس لدينا جواب على أي سؤال. الأسئلة طوفان: فلنبدأ من فاتحة فلسطين: لماذا نأت فلسطين عنا؟ باتت في عهدة الأعداء. ترابها مأكول، حاضرها موكول، ومستقبلها بلا غد… لماذا انفرط عقد الصف الواحد من المقاومة، فباتت «حماس» طرفاً سياسياً إقليمياً، ولا تجد لها مكاناً في ما تبقى من منظومة المقاومة؟ ألهذه الدرجة تستطيع المذاهب أن تفتك في عرى الدم ورباط الزناد؟

إن كلفة الحفاظ على الانتصارين، «25 أيار» و«تموز ـ آب 2006» أفدح من كلفة مقاومتي الاحتلال والعدوان. انتصاران ناصعان مكلفان، جرى الانقضاض عليهما من «أهل البيت» اللبناني والعربي، فتحول السلاح وأصحابه إلى مطلوبين لعدالة تفوح من نصوصها وألفاظها رياح مذهبية وطائفية. إلى هذا الحد تصل قدرة «المؤمنين» شكلاً أو تعصبا أو رياء أو حقيقة (سيان!) في تجريد الانتصارين من حقيقتيهما، لا من رمزيتيهما، وإعلان البراءة من هذا السلاح، بشعار دارج: لا لسلاح الفتنة والغدر!

في أي عصر نحن؟ في أي انحطاط نحن؟ أي درك أسفل بلغناه؟ بل في أي بلاد نحن؟

ماذا تقول لنا يا سيد؟ ما السبيل إلى انتزاع «الإيمان» من الشوارع والأزقة والإعلام الداشر والألسنة الجارحة، وإعادته إلى طمأنينة القلب. نحن من الذين في هذا الدامس الديني، بتنا نخاف «المؤمنين» من أشكالهم وألفاظهم، ونصلي: «اللهم نجنا منهم»، ففي سحنتهم شيء من «الرجيم».

أما بعد فلسطين المتروكة والمقاومة المحاصرة، فلا بد من قول ما، قد يغضبك قليلاً، أو يثير لديك شكوكاً. لا بد من قول ما: ان كانت شيعية المقاومة نبعاً تستقي منه إيمانها وعزمها وتأهلها لمقاومة احتلال وصد عدوان عاتٍ من دولة «الاستكبار الإقليمي» المدعومة بدول الاستكبار العالمي، وتنجح في ذلك، فهل هذه الشيعية قادرة على تأمين حاضنة وطنية؟ أشك في ذلك. لأن سهام الطائفية المجرمة، غضّت الطرف عن المقاومة، وأمعنت في التصويب على شيعية السلاح، التي تبرر تسليح السنة ومن شاء من ملل الله الكثيرة والمتكاثرة، بأسماء تعيدنا إلى العصر الحجري أو إلى ما قبله قليلاً.

هنا، وجه من وجوه الأزمة. نقطة قوة المقاومة، إرثها الشيعي، ونقطة ضعف هذه المقاومة، تثبيتها في تشيّعها سياسياً، على الطريقة اللبنانية. هكذا بسبب شيعيتها تنتهك وطنيتها. والوطنية في لبنان، منتهكة من قبل الطوائفيات مجتمعة.

فيا سيد… أين السياج الوطني لهذه المقاومة؟ بلى، في لبنان وطنيون تبددوا، كانوا ذات مقاومات سابقة، حضنة الكفاح الفلسطيني المسلّح، وحضنة المقاومة الوطنية العلمانية، وحضنة التغيير الموؤود بالعنف.

ماذا تعني يا سيد عندما تقول: «هذا هو لبنان». نحن لا نصدق ولا نرغب في الاعتراف بذلك. فهذا لبنانهم وليس لبناننا. وهذا لبنانهم ولا يجب البتة أن يكون لبنانك. لأن لبنان بهذه الصيغة هو ضدك وضدي وضدنا جميعاً، كأناس طالقين من أتباع المذاهب والطوائف، نؤمن بأن المواطنة وحدها، طريقنا إلى المقاومة وطريقنا إلى الوطن… طوائفنا تركناها في معابدها، هي هناك بألف خير ولا خوف عليها ولا خوف منها. ولأننا كذلك، آمنّا بالمقاومة، أياً كان شكلها أو مذهبها أو فكرها أو… حتى اننا استبدلنا ما عندنا بما أخذناه من المقاومة، على مستوى الضمير والحق والسلوك.

هذا اللبنان ليس لبنانك ولا لبناننا. إنه اللبنان متعدد الاحتلالات من «الإخوة الأعداء» بلا استثناء. انه اللبنان الذي لا جواب فيه على سؤال أبداً. هذه عينة من الأسئلة: هل ستولد حكومة هي في كل الأحوال حكومة تواطؤ دائم؟ هل سينتخب رئيس تعينه لنا «الأبواب العالية»؟ لماذا تخلفنا عن انتخابات تعيد إنتاج من عُيّنوا نواباً في لوائح مبرمة؟

عيّنة أخرى بلا أجوبة: ماذا عن تنامي الخطر بين السنّة والشيعة ومعسكريهما؟ أليست السيارات المفخخة خطراً عظيماً ومعدياً؟ العراق نموذج مرعب. سوريا نماذج مبتكرة أفدح من عبقرية فرنكشتاين. أليس من الواجب المقدس والملحاح درء الفتنة بابتكار وسائل وآليات وأفكار واقتراحات، عبر حوار لا يوفر أحداً، ولا يقف عند شكليات إشكالية؟ إذا كان الحوار مثقلاً بإرث العداء، فلا يبقى غير لقاء الرجال بالرجال والمفكرين بالمفكرين و…

قل لنا يا سيد… هل ستكون الفتنة خلفنا.

لا شك بأن همومك كثيرة، وهي بحجم العداء للمقاومة وحلفائها. أعداؤك أعداؤنا، دول عظمى تصنّفنا إرهاباً. دول إقليمية تجنّد إرهابيين ضدنا، إسرائيل ساهرة على حراسة العداء الدولي. عائلات روحية لبنانية فقدت روحها بثلاثين من الفضة السياسية البخسة تجوِّد التهويل والتخويف والتخوين. ولكن، ألا تستحق همومنا الصغيرة الحيوية حيزاً في كلامك.

لا نسألك عن مصير سوريا المجهول، ومصير الإخوان في مصر و… بل نسألك عنك وعمن معك وعنا، وعمن هم في حالة حصار للمقاومة. نسألك لأننا خائفون على المقاومة وفلسطين ولبنان و… ولأننا لم نعد نملك غير هذا الخوف الذي هو بحجم الإيمان بأن مستقبل الأمة مرهون بسلامة المقاومة.

ليت المقاومة كانت بوجهين متلازمين: مقاومة الاحتلال والانتصار عليه، وقيادة التغيير في لبنان، لإقامة دولة مدنية علمانية تقوم على المواطنة والمقاومة معاً. إننا في بلد المقاومة بلا مواطنة، والذين من الليبراليين يطالبون بدولة مواطنة، لا يريدونها مقاومة.

الجمع بين الاثنين فضيلة وطنية واستراتيجية. بها، يصبح لبنان قوياً بشعبه ومقاومته، من دون أن ينص بيان وزاري ملفق على ذلك.

السابق
صيدا : بيت بمنازل كثيرة
التالي
ما الذي تبقى لتشويه الثورة السورية؟