المبادرة ما بين الواقع والمرتجى

تختزل المبادرة التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه برّي بكلمة: الحوار. ولا حاجة الى جدول أعمال، إنه جاهز، وفور توافر النصاب يصبح المجال متاحا لطرح كلّ الملفات على الطاولة، وبجرأة، ومسؤوليّة، وعندما تكون الأخيرة متوافرة تصبح المزايدات والمناكفات في الخارج، ليحلّ مكانها التوجّه الصادق نحو تحقيق تفاهمات ومخارج.

وتكمن أهمّية المبادرة برمزيتها، فإنّ بري أطلقها في ذكرى تغييب إمام الحوار السيّد موسى الصدر الذي فهم الخصوصيّة اللبنانية على أنّها مساحة للتلاقي والتشاور، والتفاهم والتعاضد، خارج هذه المناسبة الوقورة يبقى ما طرحه مجموعة من الكلمات المتقاطعة، والدليل ما وصفه البعض في قوى 14 آذار بالقول: “ولماذا الحوار؟ ولأيّ غرض طالما إنه قد حسم سلفاً الموقف من سلاح المقاومة، وهو الملف ـ العقدة، ومحور الأزمة التي نتخبّط بها؟!”.

برّي يعرف تماماً أنّ محاولاته لجمع مجلس النواب قد باءت بالفشل، ويعرف أنّ الحوار قد تعطّل على مستوى المؤسّسة التي تعتبر محراب الديموقراطية، وأم المؤسسات الضامنة للنظام اللبناني، وأنّ التعطيل حصل كنتيجة حتميّة للتمديد، وأنّ التمديد قد تمّ بطريقة “تنمّ عن غالب ومغلوب”، وإنّ المغلوب كان رئيس الجمهوريّة، والبطريرك الماروني، والعماد ميشال عون، وكثير من الفعاليات والتيارات في المجتمع المدني.

وهو يعرف “أن التمديدييّن” قد إتهموا بتنفيذ إيحاءات خارجيّة، وصفت فيما بعد بتلاقي مصالح أميركيّة ـ سعوديّة ـ إيرانيّة توافقت على خيار التمديد، وإنّ المستفيد لم يكن “التيار الصدريّ” داخل الطائفة الشيعيّة، وداخل البيئة اللبنانية، بل “التيار الإيراني” حيث إستفاد حزب الله من ركوب الموجة وقرّر “خطف” لبنان الى القصير، وإلى ما هو أبعد.

لا توجد مآخذ جوهريّة تمنع رئيس الجمهورية من تلقف المبادرة، وهو كان السبّاق في الدعوة الى الحوار والتلاقي، لكن المراهنين على الإيحاءات الخارجية خذلوه، وراحوا يبررون تقاعسهم عن القيام بواجباتهم الوطنيّة بإختلاق الأعذار، وتأجيج الحساسيات، وفتح ملف الإنتخابات الرئاسيّة، وإتهام الرئيس بأنّه يسعى الى التمديد، وإنّ كلّ حراك يقوم به إنّما يصبّ في هذا الإتجاه، علماً أنّهم يعلمون جيّداً أنّ التمديد لا يُصنع في لبنان، وعندما يأتي الوحي به، فإنّ غلاة المعترضين سيكونون في طليعة المرحّبين والمؤيّدين.

إنّ الحلقة الأضعف التي يبني عليها رئيس الجمهورية حساباته تنطلق من إيمانه بوطنية الفعاليات، ويعتقد جازماً بأنّ الغالبية في صفوفهم ستغلّب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الخاصة عندما تلامس المخاطر التي تتهدّد الكيان الخطوط الحمر، لكنّ الوقائع قد خذلته، والدليل أنّ لبنان واجه في كثير من المرّات تحدّيات صعبة تفوق التحدّيات التي تواجهه الآن، وأثبتت السوابق أنّ في البلد رجالات كانوا يعرفون كيف يلتقون عند الشدّة، وكيف يحاورون، ويعملون على الإنقاذ، لكن في هذه المرّة هناك رجالات لا يلتقون، ولا يحاورون إلّا عبر الصحف ووسائل الإعلام، ويرفعون مداميك الكيديات والخصومات، وحجتهم في ذلك أنّ في الوطن من يشعر بأنه أكبر منه، وهناك فريق يملك فائض قوّة، ويتصرّف على هذا الأساس، ويعتقد أنه تحوّل مرجعية إقليميّة بات يحسب لها حساب في التقرير والتدبير.

ربّما الرئيس برّي هو الأولى بالمعروف في السير بالمبادرة نحو خواتيمها النهائيّة، نظراً لميثاقيته، وخبرته، وفهمه العميق لطبيعة الأزمة الضاغطة، ومكوّناتها الداخلية والخارجيّة. إنّه الأقرب الى حزب الله، والأعرف بما يعتري الطائفة الشيعيّة من قلق عميق حول الأجندات الطارئة، والجبهات المُحدَثة، وكلفتها الغالية على الطائفة والوطن والشعب.

إنّ الكلام عن حكومة، وعن “مقبّلات” ديموقراطية أخرى لتعويم النظام والمؤسّسات، عمل جيّد، وإنجاز تفتقر اليه المرحلة، لكنّ الأساس هو الإنضباط العام تحت سقف الدولة والمؤسسات، والإيمان بهذا الخيار والتسليم به مطلقاً، وهذا ليس بالمتوافر لأنّ هناك شعوراً عارماً عند اللبنانييّن بأنّ العطب العام قد أصبح متأصّلاً مترسخاً، وإلّا كيف يكون حوار مع من يملك مواقف مطلقة، وخيارات مرتبطة بنزاع المحاور؟

وحتى لو تمكّن برّي من تدوير الزوايا الحادة، وأبصرت الحكومة النور، فكيف تحكم؟ وماذا في إستطاعتها أن تنجز، طالما إنّ السلوك الفوقي لا يؤمن بمسار الدولة ونهجها، بل يريد مساره، ويريد أن يكون الآخرون تابعين ومصفّقين.

قد تكون المبادرة ولدت على وقع متغيّرات تحصل على مستوى الجوار والمنطقة، يمكن أن تفسح المجال أمام توازنات جديدة وتحالفات مغايرة، وهذا فأل خير بإمكانية نجاحها، وتحقيق الأغراض المرسومة لها، وتفاءلوا بالخير تجدوه.. وإن كان شحيحا؟!

السابق
المحكمة العسكرية تتابع ملف منقارة
التالي
وهبي: الأسد يذهب الى نهايته الحتمية برجليه