الديموقراطية هي تنظيم الكراهيات في المجتمع … وهنا عبقريتها

ثقافة عقود الاستبداد الطويل في المنطقة العربية عملت على تشوية تفكير الناس إزاء فكرة «ما الحل» وتشويه سقوف توقعاتهم إزاء كل تغيير يعقب تهاوي أي نظام استبدادي. عقل النظام المُستبد، وآليات التعليم المدني والديني فضلاً عن إعلامه، كان وما زال يعمل على ترسيخ قواعد أيديولوجية شبه مقدسة في التفكير الجمعي للناس. ومن ضمن هذه القواعد فكرتان تقف عندهما هذه السطور: فكرة ان النظام الاستبدادي هو الحل الوحيد المطروح أمام المجتمع. فهو حاضرهم ومستقبلهم، وفيه خلاصهم وسعادتهم رغماً عنهم، ولا مناص لهم عنه. والقاعدة الثانية هي الفكرة الابوية التي يكرس بها علاقات الناس مع النظام كأفراد عائلة متحابين يستمعون ويطيعون الاب الحنون الذي، وإن قسى بعض الاحيان، فإنه يفعل ذلك لمصلحة الأبناء غير الناضجين.
لم تقتصر هذه الافكار المؤسسة للثقافة المُستبدة وشقيقاتها وآلياتها على استخدام الانظمة السلطوية والابوية مديدة العمر، بل كانت قيد الاشتغال ايضاً وبنشاط ملفت في قلب الايديولوجيات الحزبية حيث انتجت منظمات سلطوية لا تقل استبداداً عن الانظمة التي تعارضها. القاسم المشترك الاعرض بين الانظمة السلطوية والاحزاب المعارضة لها كان ثقافة الاستبداد. النظام السياسي كان يفوز دوماً بالضربة القاضية بكونه المالك الحصري لاستخدام العنف والسلطة في المجتمع. عندما تختلف شروط اللعبة كما حدث في بعض المجتمعات مع الانتفاضات العربية وتختل تراتبية الاستبدادات وسيطرة أي منها على السلطة والقوة في المجتمع. ومع الانفلات التي تتيحه الانتخابات والمرحلة الاولى من الدمقرطة، يفيض التثاقف الاستبدادي العفن الذي لم يتعود الاعتراف بالآخر، ويرى في ذاته «الحل الخلاصي» الوحيد. وننتهي إلى «صدام الاستبدادات» في الشوارع والميادين كما نرى في مصر حالياً: استبداد الليبرالية الشائهة (التي هي خليط عجيب من القوى المدنية والمباركية والجيش) واستبداد القوى الدينية. المُرعب والمهول، لكنه الناتج الطبيعي عن عقود الاستبداد وثقافته، في المشهد يتمثل في البدائية السياسية واندفاع الغرائزية والحس الانتقامي والكيدي الذي يقود الطرفين، ناهيك عن ان يتحلى أي منهما بإمتلاك «الحل» او الثقافة الديموقراطية التي لا تعترف بفكرة «الحل الخلاصي».
فوضى السياسة والفكر والدين في حقبة ما بعد الربيع العربي تشير إلى هول ما انتجته عقود الاستبداد على صعيد تدمير أية عناصر مؤسسة لثقافة الديموقراطية والتعدد، وبخاصة في اشتغال القاعدتين اللتين تكملان بعضهما البعض: قاعدة لا حل إلا انا، وقاعدة النظام بكونه أب المجتمع. القاعدتان هما النقيض المباشر لفكرة الديموقراطية التي تؤسس وبالتعريف قناعة مشتركة بين الخصوم السياسيين والايديولوجيين تنفي وجود «حل خلاصي». ليس هناك حل سحري يملكه أي طرف فوق هذه الارض وفي أي مجتمع من مجتمعاتها يمكن من خلال تطبيقه إنهاء معضلات المجتمع من فقر واقتصاد وعدالة وحريات واستقلال تام وسيادة، وبحيث يرضى به الجميع. الثقافة الديموقراطية اكثر واقعية وابتعاداً عن فكرة «الحل الخلاصي»، ذاك ان ما تقول به وتريد ان ترسخه هو شيء مختلف جوهرياً وهو ان كل ما يمكن للخصوم السياسيين والاعداء الأيديولوجيين ان يقوموا به هو حلول جزئية لإنهاء تلك المعضلات. يتفوق بعضها على البعض الآخر بالنقاط والنسب المئوية وليس بالضربة القاضية. والنظام الديموقراطي الذي يقر بأنه لا يحمل في ذاته أي شكل من اشكال «الحل الخلاصي»، وانه كثير العيوب، يبقى الافضل نسبياً لحد الآن في كل النظم التي طبقها البشر. إذ يوفر في الحد الادنى ميدان الصراع والمنافسة بين المتصارعين ويضبطه وينظمه بالطرق السلمية.
من العيوب الاساسية للنظام الديموقراطي انه يوفر للخطاب الشعبوي فضاءً واسعاً للإنتشار وجلب الانصار وتحقيق الفوز الانتخابي. وعندما يتم توظيف الدين في قلب الخطابات الشعبوية، كما في المجتمعات العربية، وعلى خلفية تراكمات تاريخية عديدة اعتاشت عليها التيارات الدينية، فإن النتيجة غير المفاجئة في المرحلة الاولى من الديموقراطية هي الانتصارات الانتخابية لهذه التيارات. الحل الوحيد لتقليم الخطابات الشعبوية هو كشفها امام الناخبين والناس سلمياً وانتخابياً، وترقية الوعي العام وإزاحته تدريجاً من الإيمان بـ «الحل الخلاصي» الذي تعد به التيارات الدينية، إلى الايمان بـ «الحلول النسبية والنصفية». ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالصبر الوئيد (والمُستفز للأعصاب) على مراحل التحول الديموقراطي.
خلال المرحلة الاولى من الديموقراطية تحدث إزاحات كبيرة ايضا في قلب التيارات الايديولوجية التي يدرك كثير من منسوبيها طوباية شعارات الحل الخلاصي (الاسلام هو الحل مثلا) وينتقلون الى تفكير اكثر واقعية، كما حدث مع بعض اجنحة التيار السلفي في مصر ايضا، وشرائح شبابية من «الاخوان المسلمين» انفسهم. لكن الثقافة المتوارثة عن عقود الاستبداد الطويل لا تتحمل الانتقال الوئيد والجزئي، ولا تتحمل رؤية الخصم السياسي في الافق وتريد ان تعزله وتقصيه تماماً، لهذا ترتد إلى الغرائزية وتتفلت بسرعة من قيود النظام الديموقراطي الجديد عليها.
القاعدة، أو الخرافة، الثانية التي تؤسسها انظمة الاستبداد والسلطوية تقوم على فكرة القائد الأب، والنظام الأبوي الذي يرعى المجتمع بأسره بكون افراده هم الابناء، وان المجتمع مع إدارته الاستبدادية يناظر العائلة. والعائلة وبالتعريف، الساذج والخرافي ايضا، يجب ان تكون مُتحابة ومنسجمة مع بعضها البعض، وان من حق الأب ان يؤدب «بعض» الابناء العصاة المنحرفين عن الطريق المستقيم للعائلة، حتى يضمن الانسجام والحب داخلها. تتمتع هذه الخرافة، رغم هشاشتها وتعارضها مع بداهة الحياة، بقوة هائلة. وتُستخدم دوماً لضرب الفكرة الديموقراطية لأن هذه الاخيرة تسبب الشقاق والخلاف، وتنشأ في ظلها الاحزاب والحركات التي تقسم المجتمع «المُتحاب» وتضعفه. يُقارن سدنة المجتمع الابوي الاستبدادي الاستقرار و»الانسجام» الذي يوفره مع الفوضى والشقاق والحزبية التي تنتجها الديموقراطية، لتخويف الناس المُعتادين على عقود الاستبداد الطويل، ولإقناعهم بأن «غول الديموقراطية» سيأتي عليهم جميعاً ويحطم المجتمع «المتماسك» إن تم السماح له بالدخول.
«مجتمع العائلة المُتحاب والمتماسك» لا أساس له تاريخياً. فالعائلة هي نطاق للكراهية كما هي نطاق للحب والانسجام. ولنا ان نتذكر ان جريمة القتل الاولى في تاريخ البشر حدثت داخل العائلة الاولى على الارض، بين قابيل وهابيل. ولنا ان نتذكر ان إنتساب المسلمين واليهود إلى جد واحد وكونهم ابناء عمومة، لم يمنعهم من تأسيس عدواة وكراهية يعرفها الجميع. كما لكل منا ان يمرر في رأسه حالات، لا تعد ولا تحصى، من العداوات والصراعات في نطاق «العائلة» على المستويات الفردية والجماعية الاصغر. ما تقدمه الديموقراطية، وعلى الضد من نظرية «المجتمع الابوي» الاستبدادية، هو الإقرار وبشجاعة بكل تلك الاختلافات والكراهيات «داخل العائلة» ومواجهتها تحت الشمس وفوق الارض ومن دون إدعاءات. تتصدى لمهمة تاريخية وعبقرية في حياة البشر واجتماعهم السياسي وهي تنظيم تلك الخلافات والصراعات بطريقة سلمية. بكلمة اخرى، الديموقراطية هي النظام السياسي الوحيد الذي ينظم الكراهية داخل المجتمع ويدجنها ويؤسس لها قنوات سلمية حتى تنفجر فيها. والبديل عن ذلك التنظيم والتدجين العملي واحد من أمرين: الاول هو تأبيد الاستبداد حيث يحتكر فريق ما في المجتمع (طائفة، او عائلة، او حزب أيديولوجي، أو طغمة عسكرية) الحكم والسياسة والموارد ويتجبر في بقية الفرقاء، ولا يشارك أحداً في السياسة ولا يسمح لأي «إنشقاق» في العائلة او تمرد على «أبوها». بل يدفن كل ذلك تحت السطح مؤجلاً الانفجار المحتوم. والثاني هو انفجار تلك الصراعات والكراهيات على شكل حروب أهلية دموية تستنزف الجميع، ولا تنتهي إلا بإنتصار دموي تدميري لطرف على الاطراف الاخرى واخضاعها لـ «ابوته» ردحاً طويلاً من الزمن لحين بروز «أب» جديد أكثر دموية وتدميراً.

السابق
الموز والمسكنات جعلاه عميد البشرية
التالي
قلعة نيحا موقع استراتيجي وتحفة في الصخر