أبعد من الأرثوذكسي: الصيغة في خطر

يبدو الواقع أبعد ممّا وصل إليه «الكباش النيابي» حيال قانون الانتخاب في ساحة النجمة، وفي ضوء مواقف الأطراف الرافضة إقرار القانون «الأرثوذكسي»، وبالتالي تطبيق «المناصفة» الفعلية بحسب اتفاق الطائف.

تسود في بعض الأوساط القريبة من "8 آذار" و"التيار الوطني الحر" نقاشات عميقة وجدية، تقرأ في مستقبل النظام السياسي، وتداعيات الزلزال الذي يضرب "المشرق العربي" على لبنان الصيغة والكيان، وإصرار بعض القوى على سياسات الهيمنة والتهميش، وأخيراً "الاستقواء بالخارج" والعدد لحماية مكتسباتها، والحفاظ على صيغة داخلية تجاوزها الزمن وقفزت فوقها الأحداث الداخلية والإقليمية والدولية.

تتابع قوى 13 تشرين، كما يسمّيها "الوطني الحر"، عمليات "الابتزاز" والتهويل بالحرب الأهلية كلّما ارتفع الصوت المسيحي مطالباً بالمشاركة والمناصفة على قاعدة لبنان بجناحيه. يتنصلون مما جاء به "الطائف" ومندرجاته حين يتصل الأمر بالمسيحيين، ويمارسون على قاعدة جرى تصليبها في الأعوام العشرين الماضية، وعنوانها العريض: استضعاف المسيحيين.

لا يمكن الفصل بين إجهاض مشروع الأرثوذكسي، وبين التهجير والتطهير الديموغرافي الذي يتعرّض له المسيحيون في العراق وسوريا. رفض المناصفة الحقيقية يعني، بحسب هذه الأوساط، تعزيز الشعور بالغبن والدفع نحو التقوقع والهجرة، في ظل واقع ومحيط يطرح قضية "مسيحيي الشرق" على طاولة البحث الوجودي.

في العراق وسوريا، تعرّض المسيحيون لما تعرّض له سائر المواطنين من الطوائف الأخرى. لكنّ عدم فاعليتهم في دائرة اتخاذ القرار جعلتهم الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للاستهداف تمهيداً للهجرة أو التهجير.

فهل المطلوب إضعاف المسيحيين أكثر، تمهيداً للمزيد من الإحباط وبالتالي الهجرة أو التهجير؟ هذا السؤال، بحسب هذه الأوساط، يكتسب مشروعيته من السياق الذي ترسمه الأحداث حولنا. ثمّة مشاريع تكفيرية أصولية تتقدّم في المنطقة وتفرض منطقها وعقائدها. والأخطر أنّ بعضهم في لبنان متحالف معها علناً، وينتظر إنجازاتها في المنطقة ليبني عليها داخلياً.

وهنا تسأل الأوساط عن الضمانة التي يملكها هذا الفريق لعدم انتقال السيناريو العراقي والسوري إلى لبنان. وهل يحمي المسيحيين سوى الشعور بالشراكة وعدالة التمثيل والمناصفة الحقيقية؟

تعرف هذه الأوساط دقّة المرحلة وحساسية هذا النقاش علناً. ثمّة الكثير من المحاذير الداخلية والإقليمية لهذا النوع من التفكير الآن. لكنّه يكتسب مشروعيته من المسار العام للأحداث، ومن مواقف القوى اللبنانية المتعنّتة حيال الشراكة. ولا تخفي هذه الأوساط شعورها بأن الصيغة والكيان باتا مهدّدين بفعل العواصف الخارجية والسلوك الداخلي.

بعضهم لا يريد من "الطائف" سوى اسمه، ويرفض تطبيقه ويصرّ على الممارسة نفسها التي اعتمدها منذ العام 1992. هذا السلوك والتعنّت يعني أن "الطائف" لم يعد قادراً على رعاية الوضع اللبناني، أو، بصريح العبارة، لم يعد مطمئناً لا خارجياً ولا داخلياً، وبات أقلّ قدرة على تنظيم الصيغة اللبنانية وتأمين استقرارها.

وعليه، لماذا لا يبادر اللبنانيون إلى "مؤتمر تأسيسي" كان قد اقترحه الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله ولاقاه في منتصف الطريق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي؟ هذا المؤتمر، بحسب الأوساط عينها، من شأنه أن يكون مدخلاً لخلق شبكة أمان داخلية تحفظ لبنان من ارتدادات الزلزال المشرقي، وتجنّب اللبنانيين اختبار الصدام الذي يسبق التسوية. الأمور أكثر تعقيداً من أزمة حكومية وعدم اتفاق على قانون انتخابات واستحقاقات داهمة.

كل هذه التعقيدات مردها الهواجس والمخاوف وفقدان الثقة المتبادل وعدم قدرة النظام على ضبط العلاقات والمخاوف الداخلية وغياب الراعي الإقليمي والناظم الدولي. ماذا ينتظر اللبنانيون؟ وهل من الضروري الانخراط في صدامات أهلية حتى نشعر بالأزمة ونذهب نحو الحوار وتبديد الهواجس؟

بعد ما وصلت إليه الأمور على صعيد القانون الأرثوذكسي، ترى الأوساط عينها أن فرص التوافق على قانون جديد ضعيفة، ولكن حتى لو تمّ تمرير قانون جديد وتشكيل حكومة وإجراء الانتخابات، هل تنتهي المشكلة؟ الواقع اللبناني مفتوح على جملة وافرة من التطوّرات، بحيث لا تنفع معه المعالجات الموضعية ولا المياومة السياسية.

إنّ من يريد حماية الكيان في الظرف العربي الإقليمي النادر والتاريخي، عليه أن يبحث عن حلول جذرية وإجابات شافية عن أسئلة وجودية، لا قدرة للرياض وحدها على احتوائها والتعامل معها.

السابق
للتعرق أسبابه وعلاجه
التالي
وللابقار… حظوظ !!