طائرة لبنانية في سماء فلسطين!

لم يحدث ذلك من قبل. التحليق العربي فوق فلسطين، ممنوع. كان الأمر كذلك منذ اندلاع الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. لم يحدث من قبل ما حدث بالأمس القريب: طائرة لبنانية.. في سماء فلسطين… 
مرة أخرى، يكرس لبنان نفسه، شواذاً على القاعدة العربية، فهذه الدولة الصغيرة المنشغلة بطوائفها والمنشقة على نفسها، والغارقة في منازعات داخلية بلا طائل، أقوى من كل الدول العربية. تلك التي حظيت بالربيع العربي، وتلك التي خطفت الربيع العربي، وتلك التي تملك فائضا نفطياً وفوائض مالية وتحالفات استراتيجية وأفضل العلاقات مع أميركا، وتلك التي تدين بإسلام سياسي خلا من «فاتحة» فلسطين، وتلك التي راودت العجز ونامت معه في السرير، وأنجبت «فضيلة» التخلي عن فلسطين… كل تلك الدول، لبنان أقوى منها.
لا مبالغة في ما جاء أعلاه. ومن لديه شاهد فليثبته: سماء فلسطين كانت محرّمة على الطيران المدني وخطرة على الطيران العسكري، في أثناء الحروب العربية ضد إسرائيل، ولا تزال. الاستثناء الوحيد، هو في أن اسرائيل تعطي إذناً خاصاً لطائرات تقل مسؤولين فلسطينيين، ليطلّوا من سماء مقيدة على أرض محتلة.

لبنان استثناء: وحده هزم إسرائيل مراراً. حرّر بيروت في العام 1982. حرّر الجبل والإقليم. حرّر صيدا وجزين. حرر الجنوب اللبناني. (خلا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبعض الغجر)، حطّم الجبروت الإسرائيلي أربع مرات على الأقل: في عدوان «جردة الحساب» وفي عدوان «عناقيد الغضب»، وعبر هروبه من «وادي الدموع» وإغلاق بوابة فاطمة، إلى عدوان تموز.

ولبنان استثناء في السلبيات وفي الإيجابيات كذلك. وإذا كان هناك من يعترض على إضفاء «اللبنانية» على الطائرة، فالجواب هو التالي: إذا كانت تنسب المثالب والمصاعب والمتاعب والمصائب إلى لبنان، بما هو عليه من زمان حتى الآن من احتراب سياسي، فمن الحق أن ينسب إنجاز طائرة «أيوب» إلى لبنان، فتعلو قامته وينصع جبينه. فهذا إنجاز غير مسبوق، وبحجم ما سيتبعه من أشقاء، أعظم منه مقاماً.
  
طبعا، ليس كل لبنان مع طائرة «سماء فلسطين»، الاسم القرين، لطائرة «أيوب»، التي أطلقتها «المقاومة الإسلامية» من مكان ما من لبنان، إذ لا أحد قادر على توحيد اللبنانيين. وبناء عليه، فمن حق كل فريق الانتساب إلى لبنان ببضاعته… وهذه بضاعتنا، وبها إلى لبنان ننتسب.

وتجوز المفاضلة بين البضاعتين. فلمن الأرجحية؟ من جهة فلسطين، الأرجحية اللبنانية سامية وفاضلة. من جهة غير جهة فلسطين، أميركية أو خليجية أو إسلامية رسمية، فهي أرجحية غير بريئة… فهل يصح، والبلد هذه حاله، أن نقول، إن لبنان قوي بفلسطين، وضعيف جداً إذا ابتعد عنها؟ إن نظرة إلى توزع القوى السياسية في لبنان، وعلى الرغم من الانغماس الشديد في المسائل اللبنانية كافة، الراهنة والقديمة والبين بين، والاختلاف الجازم حولها، ترسم لنا صورة فريق لبناني، يعتبر فلسطين قضية دولية أميركية أوروبية، وفريق لبناني آخر، التزم قضية فلسطين، فنصرها بالدم وأفلح، ونصرها بالمقاومة فنجح، ونصرها بلا مكسب وبات على قاب قوسين أن يصبح هذا الفريق، وحده من خارج فلسطين، قادراً على تعطيل «تسوية التصفية لقضية فلسطين».

اللبنانيون لم يتفقوا على فلسطين، منذ اندلاع الاغتصاب وتتويجه بالاحتلال لكل فلسطين. وكذلك فعل العرب. كياناتهم أولا وفلسطين أخيراً، أحزابهم أولاً.. والقضية في ما بعد. حكوماتهم أولا.. والفلسطينيون للإقامة في مخيمات اللجوء إلى الأبد…
لبنان، استثناء على القاعدة العربية، فهو وحده بين الدول كافة، من يملك دولة ومقاومة.. دولة بمواصفات طوائفه، ومقاومة (من زمان) بمواصفات قومية وإنسانية… والمقاومة الإسلامية، من هذا الصنف راهنا. دولة لبنان لها اختصاصاتها الفاشلة، ومقاومة لبنان لها اختصاص ناجح… وعبثا يفكر المراهنون في تفضيل هذه «الدولة» بما عليها، وبما ليس لديها، على المقاومة. ولأن الدولة عاجزة عن اللحاق بالمقاومة، وعاجزة عن القبض عليها، ومحرجة دوليا بسبب فذلكة «الجيش والشعب والمقاومة» (وهي فذلكة سفسطائية لا تنفع ولا تضر). فمن مقتضيات الحكمة السياسية، أن يعرف كل طرف حده ويقف عنده. أي أن تقف الدولة عند حدود الكلام والانقسام، وتقف المقاومة جهدها كله، ولقد فعلت ذلك، لإنتاج قدرات قتالية، تحرم قادة اسرائيل النوم بطمأنينة.

إن إسرائيل التي كانت تضرب أينما كان، وتجتاح كيفما كان، وتستصغر لبنان، باتت قلقة جداً من مسلسل تراجعاتها أمام قوة لبنان، المتمثلة بمقاومة شريحة واسعة من شعبه.
فريق 14 آذار، لا يجيد غير لغته.. أتيحت له فرص سياسية كثيرة، كي يبتدع لغة جديدة. غريب: اللغة ذاتها والخطاب نفسه. نقطة الجاذبية عنده تشد عناصر الواقع المعقدة إلى «بساطة» ورطانة «بناء الدولة». من يصدق في لبنان وفي العالم، أن في لبنان قوى مؤهلة لبناء دولة؟ ليس في لبنان إلا هذه البضاعة، وهذه بطبيعتها وانتماءاتها ومصالحها وتحالفاتها الخارجية، ناسفة للدولة ومؤسساتها، ومبرمجة العجز وتعميمه، حتى كل القوى المسلحة.

لم يتح للبنان أن يكون دولة منذ ولادته مستقلا.. هو مزرعة، ومن فيه «مُرابِعون» لدى قوى خارجية، تملك حرية صرف نفوذها في لبنان، إما عبر تفاهمات (تسوية) أو عبر صراعات ونزاعات (ونحن اليوم فيها كما كنا سابقاً).
فلنخرج من كذبة «بناء الدولة» نهائيا، لا قدرة لهذه القوى، ولا لمن سبقها، ولمن ستنجبه على شاكلها على بناء دولة. الدولة مستحيل لبناني، إلى أن يثبت العكس، بعد فوات الأزمنة. وإلى أن تبنى الدولة بكامل سيادتها، ستكون المقاومة حجر الزاوية في حراسة الدولة وسيادتها. فلنخرج من رطانة الأداة الإيرانية، من دون نكران الحضور الإيراني في لبنان، بطبيعته المختلفة، عن حضورات الأنظمة العربية، ذات الصلة بالحالة اللبنانية.

في الأساس، عندما أطلقت الرصاصة الأولى للمقاومة اللبنانية، بعد احتلال بيروت، لم تكن بوصاية إيرانية، ولا كانت بإرادة سورية. من تحت أنقاض الاحتلال، خرج صوت القوى الوطنية واليسارية وأطلق المقاومة الوطنية اللبنانية، ببنادق مقاتلين لبنانيين، استشهد أغلبهم. خالد علوان لم يذهب إلى مقهى «الويمبي» في الحمراء، بناء على فتوى خارجية. المقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي، كانت قراراً لبنانياً. ولقد تسنى لنهج المقاومة في لحظة الصعود الإيراني، بقيادة الخميني، دعم منقطع النظير، فيما كانت تتعرض هي نفسها لمذبحة دولية بقيادة صدام حسين، وفي وقت كان فيه الحكم اللبناني، يفاوض أرييل شارون، ويضع النصوص التي تسمح لجيش الاحتلال الاسرائيلي، باقتلاع المقاومة نهائيا. (راجع آلان مينارغ).

«حزب الله» وليد زمن الاحتلال من جهة، والواجب الذي تفرضه الوقائع على الأرض، والعقائد التي تحرك النفوس في المواقع من جهة ثانية. ولكل مقاومة حليف من طبيعتها، عقائديا أو دينيا أو استراتيجيا… لقد خلا التاريخ من مقاومات بلا أحلاف خارجية… هذه أضغاث مقاومة وثورات. فإذا كانت إيران تُعَيَّر على حضورها في لبنان، فإنها، بسبب دعمها للمقاومة، في منأى عن النقد والعتب… إيران، بعد ثورتها، صارت فلسطينية بلغة فارسية، وضد الولايات المتحدة، راعية إسرائيل والمرجعية العربية، بلغة استراتيجية.

أما القول بأن المقاومة الإسلامية في لبنان، ذراع إيرانية، فهو من باب التسلية والمناكفة. المقاومة في خندق واحد مع إيران. فإذا ضربت إيران لن يوفَّر «حزب الله»… ونترك الاستنتاج لأصحاب العقول. لأن في مثل هذه العواصف لا قدرة لأحد على تحييد لبنان ومقاومته. هذا هو القدر الاستراتيجي للبنان.

طائرة لبنانية.. في سماء فلسطين؟
هذا خبر بات من الماضي. الأمة بانتظار أخبار مفاجئة، بصيغة المستقبل. قد يكون أفدحها على إسرائيل، منع طائراتها عن سماء لبنان. من يدري؟ عوّدنا السيد حسن نصر الله على مفاجآت برية وبحرية وعابرة للحدود، فقد يفاجئنا بمفاجآت جوية، لا تظل فيها الأجواء اللبنانية مستباحة لطيران العدو.

السابق
مركز سرطان الاطفال أقام عشاءه الخيري السنوي
التالي
الابراهيمي وضع خطة لنشر قوة سلام