صراع على دولة مهترئة

قد يبدو السؤال ساذجاً، ولكن لا بد من طرحه في بلد كلبنان يعاني ما يعانيه من أزمات مستعصية: لماذا يتصارع الناس على السلطة؟ربما يجد السؤال سبيلاً الى بعض المنطق اذا ما جرى تعديله بصورة واقعية: لماذا يتصارع أهل السياسة في لبنان على دولة متهالكة مهترئة تكاد تكون جثة هامدة، اذ منذ زمن طويل تقوم كل حكومة بتسليم خليفتها تركة ثقيلة تنوء بحملها الجبال؟في الدول المحترمة يتصارع السياسيون على السلطة لأهداف نبيلة غايتها إما الحفاظ على استقرار محقق بجميع مفاصله السياسية والاقتصادية والأمنية، أو إنجاز إصلاحات تنقل البلاد والعباد من حال الى حال أفضل.

إلا أن هذه المعادلة لا تنطبق على لبنان وحكوماته المتعاقبة منذ الاستقلال، إذ لم تستطع هذه الحكومات تحقيق الاستقرار ولا إنجاز الإصلاحات. حتى أن الإنجاز الإصلاحي الدستوري الوحيد الذي خرج في الطائف انقطع حبله في منتصف البئر ولم تتحقق أهدافه السامية في الوصول الى وطن.كان أفلاطون يقسم الأنظمة الحاكمة الى خمسة: 1 ـ حكومة «القلة الفاضلة»، بحيث يحكم أفضل الناس وأرشدهم، ويدخل عامل السن ضمن الصفات، فيقدم الكبير الفاضل على الصغير الفاضل، ويتم الاختيار من قبل العلماء والمختصين بعد اختبار هؤلاء الفضلاء وليس بالتصويت الجماهيري. 2 ـ حكومة «الطامحين وأصحاب الشرف» بحيث يحكم الناس اصحاب الطموح والمندفعين نحو السمو والشرف والغلبة. 3 ـ حكومة الشعب (الديموقراطية) وتعطى الحرية الفردية فيها مجالاً كبيراً لتشارك الأغلبية في صنع الحكومة. 4 ـ حكومة الطبقة الغنية وأصحاب الثروات، ويحكمها الأغنى والأكثر جاهاً ومالاً فيحكم الغني الفقير. 5 ـ حكومة الجبروت والطغيان (الاستبدادية) ويحكمها المتجبرون والمجرمون بالنار والحديد ويستعبدون الشعب.في لبنان شيء من كل هذا، ولو كان أفلاطون حياً لأضاف نظاماً سادساً الى تصنيفه، أو ربما ارتبك في تصنيف النظام اللبناني.

هناك آفة مزمنة في لبنان تقوم على الخلط بين السلطة والدولة. فمن حق الحاكم ان يتصرف بالسلطة وفق الدستور والقوانين والاجتهادات، يخطئ أو يصيب فيتحمل المسؤولية ويُحاسَب في النهاية أمام الرأي العام. ولكن ليس من حق الحاكم ان يتصرف بالدولة على قاعدة لويس السادس عشر «أنا الدولة.. والدولة أنا».
فالدولة أرض وشعب ومؤسسات وحكم، فيما السلطة هي فقط الادارة التي تشرف على مسار الدولة. كثيراً ما ينادي اللبنانيون بالدولة وينشدون قيامها، إلا أنه لم يثبت في أي مرحلة من المراحل أنهم جادون في الولوج اليها. وربما يحلو للبعض اليوم الزعم بأن المقاومة هي سبب اهتراء الدولة، وفي ذلك ظلم كبير ما بعده ظلم. فقبل المقاومة كانت الدولة مهترئة، ولولا المقاومة لما كان هناك دولة ولو مهترئة. فدولة نظامها يقوم على المحاصصة بين الطوائف ليست بدولة. ودولة لا تستطيع سلطتها محاسبة حاجب في إداراتها متحصن بطائفته ليست بدولة. دولة لا تستطيع حماية حدودها، ولا صيانة مؤسساتها، ولا تأمين الخدمات بحدود مقبولة لمواطنيها، ولا تحقيق استقرار أمني معقول لأهلها، ولا إنجاز نظام ضريبي سليم، ولا إقرار موازنة عامة، ولا استغلال خيراتها.

دولة غارقة في الديون، عاجزة عن الانتاج، غير قادرة على برمجة اقتصادها، حكامها يتصارعون على أبسط الأمور، ملاكها الإداري يكاد يفرغ من شاغليه، كهرباؤها وماؤها بالقطارة. دولة مهترئة بكل معنى الكلمة، ومع ذلك يتصارع الساسة على إدارتها منذ سبعة عقود من دون أن يحققوا لناسها مستقبلا أفضل. أليس في ذلك ما يدعو الى الغرابة؟ربما عندما يعرف السبب يبطل العجب. والسبب يستطيع أهل السلطة أنفسهم تبريره وتعليله أكثر من غيرهم.  

السابق
لماذا يخشى حزب الله اليونيفيل شمالاً؟
التالي
16 غريقاً في بحر صور ومتنزهات الليطاني