ما بعد هجوم جعجع

يعرف رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع موقع بكركي في الحياة السياسية اللبنانية. يدرك انها من الثوابت في بلد المتغيرات. يعلم أيضا ان انعكاسات مخاصمة بكركي ليست بالامر اليسير. فلقد سبقه كثيرون الى ذاك الاختبار وعادوا مجروحين. في التاريخ القريب، ما يزال النائب العماد ميشال عون يدفع ثمن خصومته لبكركي وبطريركها نصرالله صفير. في التاريخ الابعد، لم ينجح كميل شمعون، وهو من هو يومها، في ان يجعل العشب ينبت على ادراج بكركي كما توعد، ايام البطريرك بولس المعوشي.

يعرف جعجع كل ذلك واكثر. في احاديثه يستشهد ببطاركة تاريخيين منهم من عاشوا في المغاور ومنهم من احرقوا في الساحات ومنهم من تهجروا من بلدة الى اخرى و«ما بدّلوا تبديلا».
عندما يقول جعجع عن موقف لبكركي «انه غير مشرف ويضرب كل تاريخنا.. ولا افتخر به»، فانه يدرك تماما تداعيات كلامه. وهو لا شك يتوقع، أقله، «نقزة» في محيطه. فـ«القوات» التي تزايد على الجميع بـ«مسيحيتها»، وتطرح نفسها كحامية لأعمق ما يختزنه الفكر المسيحي والماروني تحديدا، تتصدى لمواقف رأس الكنيسة المارونية وتعارضه وتذهب حتى حدود الخجل من تلك المواقف.

فما هي الاسباب «الكامنة» للخلاف؟ هل هناك مضمر ومعلن؟ والى اي مدى قد يتطور هذا الخلاف؟ ومن يخسر اكثر.. بكركي أم «القوات:«؟ هل انتهى عهد «الشركة والمحبة» قبل ان يُترجم في السياسة مصالحات وتوافقات وتقريب وجهات نظر؟ هل عادت بكركي نقطة خلاف عوض ان تكون نقطة تقاطع؟ ماذا عن مصير اللجان التي شكلتها؟ هل ستتوقف أم أن ممثل «القوات» فيها سينسحب؟ هل يتعاطف مسيحيو «14 آذار» مع «القوات» أم أن التحالفات والخصومات لا تنسحب على العلاقة مع بكركي؟

يعزو بعض المطلعين «غياب الود بين البطريرك بشارة الراعي وسمير جعجع إلى مرحلة قديمة. فلكل منهما آراء مسبقة عن الآخر لم يبددها وصول الأول الى قمة الهرم الكنسي ولا خروج الثاني من السجن. لكن الرجلين، وكل لأسبابه، قررا التعالي عن الحسابات والمشاعر وفتح صفحة جديدة. لم يرق لجعجع ما راح يخطه الراعي على صفحته. فهو اعتاد ان تكون بكركي راعية «14 آذار» سياسيا مع عاطفة خاصة، اقتضتها الظروف إزاء «القوات». وبالتالي مع حرص الراعي وجعجع على اظهار حسن النوايا، الا ان الحذر وغياب الثقة بقيا ماثلين في خلفية العلاقة».

جاء الموقف البطريركي من الاحداث في سوريا ليكرس الاختلاف ويظهّره. وعلى الرغم من إصرار مصادر كنسية على التأكيد «ان الاجتزاء والاستنساب يحوّران كلام الراعي الذي يؤكد في كل اجتماعات مجلس المطارنة انه لا يمكن ان يدافع بأي شكل عن النظام السوري، كما عن اي نظام آخر، ولا عن العنف من أي مصدر أتى»، الا ان تصريحاته الاخيرة كانت كافية بالنسبة الى جعجع لاعلان اعتراضه وأسفه وخجله من كلام الراعي.
على الاثر بدأت ترجمات الافتراق بين «القوات» وبكركي. وكانت اولى تجلياتها امس في قطر. ففي حين استقبل البطريرك الراعي على هامش زيارته الى قطر ممثلين عن الاحزاب اللبنانية، قاطع ممثلو «القوات» الاستقبال.
هذا اول الغيث بعد ان تلبدت سماء العلاقة بالغيوم. وتشير مصادر متابعة الى ان «القوات» ابلغت عددا من رجال الدين والاساقفة انها «لن تشارك في اجتماعات تنسيقية او تشاورية في بكركي، ومن بينها اجتماعات لجنة اعداد قانون الانتخاب الى حين بلورة كل القضايا المطروحة والاتفاق على خطوطها العريضة».

ويقول مصدر «قواتي» ان «علاقتنا ببكركي كمرجعية دينية خارج المناقشة. وان ما نبديه من اعتراض نابع من حرصنا على موقع بكركي وتاريخها ودورها. وقد أراد الدكتور جعجع ان يتوجه الى البطريرك بالكلام الذي توجه فيه إليه كنوع من هزّ ضميره ودعوته الى الالتفات الى معاني مواقفه وتداعياتها الاخلاقية والسياسية على المسيحيين».

وعما اذا كانت «القوات» ستشارك في اجتماع اللجنة التي تبحث قانون الانتخاب في 3 نيسان المقبل في بكركي، اجاب المصدر» سنتابع المشاركة العادية في الاجتماعات الدورية والتحضيرية. اما الاجتماع في بكركي، فله شروطه الاخرى ومعطياته. ونحن على قدر ما يهمنا قانون الانتخاب الا اننا معنيون بشكل اساسي بنظرتنا الى البلد ودوره ودور المسيحيين فيه سواء الاخلاقي او الانساني او القيميّ ناهيك عن السياسي».

في المقابل، تحفظ اكثر من مصدر كنسي على الرد على كلام جعجع. وعلق احد الاساقفة بالقول «للجميع الحق في إبداء رأيه والدفاع عنه. نحن في بلد ديموقراطي والكلام السياسي يحتمل التعدد والاختلاف. وليس هذا سببا ليفسد للود قضية بين بكركي او اي طرف سياسي». وعن نية «القوات» مقاطعة اجتماعات اللجان التي تعقد في بكركي واولها في 3 نيسان، اشار الاسقف نفسه الى «ان الاجتماع لم يحسم تاريخه بعد.. وحتى ذلك الحين تتغير معطيات كثيرة خصوصا ان الخلافات قابلة للحل، والنقاش يبدد اكثرها عمقا».

السابق
إخفاق انتخابي في ليبيا
التالي
ضرورة الانسحاب من افغانستان