اكتشاف الخلية السلفية داخل بنية الجيش

في تاريخ المؤسسة العسكرية اللبنانية، أكثر من شاهد ودليل على ان القوى ذات التوجهات السلفية ليست هي التيار السياسي الاول الذي ينجح في اختراق بنية الجيش اللبناني ويضع مداميك أولية لانشاء خلايا نائمة في انتظار ساعة الحاجة اليها. ففي اليوم الأخير من عام 1960، انكشف مدى اختراق الحزب السوري القومي الاجتماعي للجيش، وذلك عندما حاول تنفيذ انقلاب عسكري أخفق بعد ساعات قليلة على الشروع به.

وفي بدايات سني الحرب الأهلية نجحت قوى اليسار واليمين في مد جسور الى داخل بنية هذا الجيش عبر ضباط كان لاسمائهم لاحقاً دوي وصدى. وبين هذين التاريخين، كانت حادثة سعي المخابرات السوفياتية الى اختراق الجيش عبر طيار "لسرقة" طائرة "ميراج" فرنسية الصنع وتهريبها الى الخارج للاطلاع على اسرارها. ذلك كله في ذمة التاريخ غير البعيد، ولكن "الاختراق" المكتشف للتو، والذي لم يعد يرقى اليه الشك في اعقاب تأكيد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي له، ينطوي على مخاطر ودلالات وابعاد شتى، أكثرها مرتبط بالتوقيت وباللحظة السياسية التي لها صلة وثيقة بالاحداث التي تعصف منذ مدة بالعالم العربي ورغبة التيار السلفي – التكفيري الذي كان حتى الامس القريب تياراً يدرج في خانة التيار التبشيري – الدعوي الرافض لاعتماد العنف وسيلة لتأكيد حضوره، بتأكيد هذا الحضور في الساحات العربية، خصوصاً بعدما دخل في تنافس وصراع مكشوف مع تيارات اسلامية أخرى مثل جماعة "الاخوان المسلمين" الأعرق.
لم يعد سراً القول ان الجيش فتح منذ زمن، أبواب المواجهة مع التطرف والتشدد والارهاب، وبالتحديد منذ احداث نهر البارد وما سبقها مباشرة من عمليات تصفية وقتل متعمد لعناصر من الجيش. وقد بات معلوماً انه بعد معركة مخيم نهر البارد مع "فتح الاسلام" والتي دفعت المؤسسة العسكرية لكسبها تضحيات جساماً مدى شهور عدة، وضعت قيادة الجيش آنذاك هدفاً استراتيجياً آخر الى جانب هدف الوقوف ضد العدو الاسرائيلي مع المقاومة، وهو هدف مكافحة الارهاب والحيلولة دون تمدد أذرعه الى الساحة اللبنانية والعبث فيها.

وعليه، ومن خلال معمودية نار ميدانية، اضاف الجيش الى عقيدته القتالية عدواً آخر لم يكن مدرجاً سابقاً في نطاق هذه العقيدة، وهو "التطرف" بأشكاله المكشوفة والمضمرة، ومنها بطبيعة الحال الارهاب.
وفي حينها بادرت واشنطن الى الاشادة بدور هذه المؤسسة في هذا الميدان، معتبرة انه يخوض معها معركة واحدة.
بعد معركة نهر البارد، تصرف كثر في الساحة اللبنانية من منطلق ان "الارهاب والتطرف" ربما لن تقوم لهما قائمة الى أجل غير مسمى على الساحة اللبنانية لاعتبارين اثنين:
الاول: انهما تلقيا ضربة قوية من خلال الإجهاز على "فتح الاسلام" في مخيم نهر البارد وقبلها أحداث طرابلس، وما تلاهما من عمليات اعتقال واسعة للخلايا والمجموعات النائمة والمتحركة.
الثاني: ان الاحداث الأمنية كشفت حقيقة "انعدام" البيئة الحاضنة لمثل هذه المجموعات المتطرفة، ولافكارها ومعتقداتها المتشددة، بدليل بقائها وحيدة في مخيم نهر البارد بعد هجران الناس له، وبدليل ان البيئة السنيّة التي يفترض أن تشكل الحاضنة والرافد لهذه المجموعات قد نأت بنفسها عنها وأعلنت تبرؤها منها، بحيث بدت انها مسألة طارئة وعابرة ولا تمتلك أية جذور.
لكن "الربيع العربي" قلب الصورة رأساً على عقب، فهذا الربيع اطلق الحضور العلني للإسلام السياسي ممثلاً أكثر ما يكون لجماعة "الاخوان المسلمين" من القمقم، وجعلها تقترب أكثر فأكثر من تحقيق حلمها التاريخي بالقبض على زمام السلطة في ثلاث ساحات عربية، فضلاً عن زحفها نحو سوريا التي كانت حتى الامس القريب موصدة الابواب في وجهها.

وفي موازاة ذلك، وعلى نحو فاجأ حسابات وتوقعات الكثير من المراقبين، ظهر للعيان نمو الحركات السلفية، وسعيها الحثيث لأخذ مكانها في الساحات العربية المتحولة والمتحركة والتي ترغب في خلع جلدها القديم من دون أن يكون هناك بديل جاهز.
وإذا كان تنظيم "الاخوان المسلمين" بدا واثقاً من نفسه قوة وحضوراً يعطيه "شرعية" ملء الفراغ كونه الأعرق والأكثر تنظيماً والواجد العطف الأكبر، فإن الحركات السلفية وجدت نفسها في سباق محموم مع الوقت ومع تطورات الحدث، فسارعت الى العمل والظهور بشكل اعتباطي مثيرة غباراً واسعاً حول نفسها ودوياً يفوق حجم حضورها الحقيقي اضعافاً مضاعفة.

وهكذا وبسرعة فائقة، وبالاستناد الى طاقات وقدرات مالية هائلة، عملت الحركات السلفية على ما يشبه "غزواً" سريعاً ومباغتاً لساحات ليبيا ومصر، واخيراً الاردن حيث المعلومات المتداولة عن وجود أكثر من عشرين ألف ليبي سلفي كاحتياطي استراتيجي للتحرك والحضور في منطقة الشرق العربي عبر الساحة السورية، من دون ان تغفل الساحة اللبنانية، حيث نجحت اخيراً باختراقها في مناطق طرفية أولاً ثم لتظهر اخيراً في وسط بيروت بتظاهرة، وإن رمزية محدودة من حيث الحجم ولكنها ذات قيمة عالية على مستوى الحضور السياسي، لا سيما بعدما سمحت لنفسها بالقول انها القوة الأوزن في الشارع السياسي والديني السنّي، وهو طرح قد لا يعبأ به كثيرا في الداخل اللبناني، ولكن في الوسط العربي المتحول والمتحرك والمهتز، تتضاعف قيمته المعنوية والاعلامية.

وفي كل الاحوال، يأتي الكشف الرسمي عن الخلية السلفية داخل الجيش اللبناني، مرفقاً بالاعلان رسمياً عن ان هذه الخلية هي ممتدة ومتشعبة ولها سلم اولويات تخريبية، ليعطي صدقية وقيمة للتحذيرات التي أطلقها العديد من المسؤولين والفاعليات عن تسلل لقوى الارهاب والتطرف عبر جنح الحدث السوري الى الداخل اللبناني المثقل اصلاً بالتناقضات والمحتوي على حضور سلفي ينتظر فرصته المناسبة للظهور والحضور والتأثير بعدما كان في السابق يعتمد الاسلوب الدعوي والرعائي الهادئ البعيد عن الاستفزاز، اذ تعتبر هذه القوى نفسها الاجدر والأولى بقيادة التيار السلفي كونها الأعرق حضوراً، لذا لم يكن غريباً في بعض رموزها ومشايخها في الشمال ان ينأوا بأنفسهم عن حركة الشيخ احمد الاسير ويرفضون السير في ركابها.
وخطورة الخلية السلفية المكتشفة اخيراً لا تقتصر فقط على الحضور في لحظة متأججة ومحتدمة في المنطقة، ولا في سعيها الجلي لاختراق بنية المؤسسة العسكرية فقط، بل ايضاً في أنها تمزج في عملها وسعيها بين ثلاثة عناوين مما يجعلها اقرب الى ما يصطلح على تسميته بالسلفية الجهادية – التكفيرية، وهذه العناوين هي:

1- تشبع أفراد هذه الخلية وفق ما أظهرت التحقيقات الاولية بالفكر العقائدي التكفيري، الذي يحدد نظرة عدائية لباقي المذاهب والطوائف.
2- أنه يزاوج بين العقيدة وامتشاق السلاح.
3- انه يعتمد المؤسسة العسكرية أرضية للعمل والحراك.
وهذه العناوين مجتمعة تتجاوز بكثير اسلوب السلفي المعروف عبد الغني جوهر "بطل" عملية تفجير آليات وباصات الجيش اللبناني على مدخل طرابلس قبل نحو ثلاثة أعوام.
ربما أن بعض المراقبين يرى ان الأمر كله لا يستأهل اطلاق موجة تخوفات من الحدث كله، معتبراً أنه مجرد "اختراق" محدود جداً في مؤسسة كبيرة نسبياً، وقد نجحت مخابرات الجيش في وضع اليد عليه وهو في "مهده"، لذا فسيكون حادثاً عابراً يمكن استيعاب تداعياته واخفاء معالمه بعد وقت قصير.
لكن الثابت أنه كان يمكن ادراج الحدث في مثل هذه الخانة من التشريح والقراءة لو كانت لحظة اكتشاف الخلية السلفية غير اللحظة الحالية، أي لحظة "فوران" "السلفية الجهادية" وسعيها للتمدد والحضور والتأثير على الساحة السورية من البوابة اللبنانية، فضلاً عن أن اختراق الجيش مسألة تنطوي في حد ذاتها على قدر من الابعاد والدلالات الخطيرة.
كل ذلك يرتّب على السياسيين عدم التعاطي مع الموضوع باستخفاف، أو مقاربته كمثل مقاربة كلام وزير الدفاع فايز غصن قبل فترة عن وجود تنظيم "القاعدة" في لبنان، حيث كانت عاصفة الكلام والسجال التي تحت جنحها مرّت أمور كثيرة محاطة بالشكوك.

السابق
رسالة الجيش.. وصلت
التالي
هل تزوّجت كارول سماحة من طليق نجوى كرم؟!