السيد محمد حسين فضل الله أترع كأساً من نور ومضى وحيداً

 جمع شعره بين الشغف بذات الله وحبّه بخليفته الإنساني
رغم مشاغله الكثيرة في المجتمع والسياسة والدين كان يتابع حركة الشعر وآراء النقاد
ارتجل الشعر مراراً في شبابه ورثى العلامة السيد محسن الأمين وهو ابن السابعة عشرة
من إحدى حواراته: إنني من عائلة شاعرة حفرت نبضات الشعر عميقاً في ذاتي

لم يكن صباح الأحد الواقع في الرابع من شهر تموز 2010 موعداً لغياب مرجع إسلامي شيعي وفقيه مجدِّد وحسب، بل كان موعداً أيضاً لفقد شاعر حسّاس، صافي الشعور وصادق الوجدان.
لم يكن ابن عيناثا – جبل عامل السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله) ليبخل على جمهوره ومقلديه بما حباه الله من نعمة الفصاحة والبيان، فقد كان خطيباً مفوّهاً وأديباً وشاعراً عرف كيف يزاوج بين لغة الفقه الحاسمة وبين لغة الشعر بما فيها من فيض حبّ وعاطفة ووجدان.
آمن سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله ، بأنّ الشِّعر هو الإنسان، وأنّه لا يمكنك أن تكون شاعراً أو أديباً إذا لم تكن إنساناً يتحسَّس كل صرخات الجياع وأنات المظلومين وعذابات المضطهدين" لأن الشِّعر هو الإحساس بالحياة العزيزة والكريمة، الحياة التي لم يُعْلِنْ سماحته اكتمال فهمه لها، لكنه أحبّها ليغنيها ويبدع فيها ويؤنسها يقول:
أهوى الحياة انطلاقاً في ذرى حلمٍ يشدُّه لحياة الوحي إيمان
عيشٌ بسيطٌ ودنيا غير طامعة وعالم بالشعور الحُرِّ يزدانُ…

على شاطئ الوجدان
وقد جاءت قصائده في مرحلة الشباب من خلال ديوان على شاطئ الوجدان الذي يشكّل بعناوين قصائده لوحة من الحبّ الإنسان عبّرت عنها كلّ عناوين وقصائده هذا الديوان لا سيما قصيدة "حبّي" التي أعلن فيها هوية هذا الحب:
حُبِّي الذي سقيته من ذي ومن حياتي: كأس عطر ونور
هذا الذي وزّعت أطيافه على التفاتات الصباح النفير
يرش في الدرب أناشيده فيرقص الدّرب، ويغفو العبير
وقد عبَّر كثيراً في لقاءاته وحواراته عن أنه يخلق جنّته من خلال ألمه ومعاناته وحزنه ولذلك حضر كثيراً البيت الشعري من قصيدته أنا يا ليلاي:
فأنا أخلقُ وحدي جنتي فأرى الّلذة في أعماق حُزني
ولهذا تراه من قلبٍ مُفعمٍ بالالتزام بقضايا الأُمّة يخرجُ إلى الضوء أنوار ديوانه قصائد للإسلام والحياة والذي عبَّر عن مرحلة صراعه مع القضايا التي عاشها الإسلام – إن صحَّ التعبير – وقد جاءت عناوين المحاور بمعظمها: مع الله، مع الرسول، في رحاب أهل البيت(ع)، مع النفس، وغيرها مما واكبه من أحداثٍ نظم فيها شعره السياسي والديني والاجتماعي وحتى رثاء الأحبّة ومنه قصيدته في رثاء رفيق العمر والدرب السيد الشهيد محمد باقر الصدر والتي عنونها: "لائق قوّة" وقال فيها:
لأنّك قوّة لأنّك ثورة لأنّك سِرّ انطلاقةِ أمّة…
أرادوك أن تنحني للرياح… وأن تسلِّم الروحَ في كلَّ ساح…
أخي… ويعود الحنينُ لقلبي… عميقاً كمثلِ الجراح…

في الشعر العقائدي
وأما شعره العقائديّ فقد جاء دستوراً خصّ به الدين الإسلامي الحنيف ورسالة نبيّ الهُدى في ديوانه "يا ظلال الإسلام" والمنظوم على بحرِ الخفيف وهو كما قال سماحته عنه: "مشروع ملحمة إسلامية كبرى" حيث كانت قصائد الديوان تعبيراً صارخاً عن الالتزام بقضية الإسلام الكبرى "فلسطين" والتي لا يمكن تجاهل أنه نظم فيها بيتين وهو في العاشرة من عمره حيث قال:
دافعوا عن حقّنا المغتصب في فلسطين بحدِّ التعضب
واذكروا عهد صلاحٍ حينما هبَّ فيها طارِداً للأجنبي…
وقد كانت قصائده كلها دعوة لوحدة الإنسان، ولوحدة القيم، ووحدة المشاعر الإنسانية التي خلّدها في فهمه لحقيقة الشعر والشعراء فلطالما كان يردِّدُ حين سؤاله عمّن تُفضّل من الشّعراء. كان يقول: "لكل ورد رائحة" فما أعذب شعره، وما أنبل عاطفته الجياشة، وما أظهر وأجمل رائحته التي عطّرت فضاء الإنسان وكانت أملاً لكل الساعين في درب الحريّة".


السيد العاشق
ولأن الحبّ كتب على ابن آدم منذ ولادته لا كي يستمرّ نوعه فحسب، بل لتصبح حياته ذات هدف ومعنى سامٍ، فإن سماحته كان في خضم تلك العواطف السامية الجياشة وهو في عمر العشرين وما دون بسنوات حيث نظم شعراً غزلياً رقيقاً راقياً عذباً.
ففي قصيدة عنوانها عتاب واستغفار من ديوان "على شاطئ الوجدان" وفي عفوية المراهق العاشق وشغفه بالحب والحياة ينشد سيّدنا:
في شغفي نار… وفي مقلتي دمع… وفي روحي التفات الحنين
وفي ارتجافات الهوى في يدي ذكرى غرام قد طوته السنون
وفي فمي ترنيمة الملتقى يصرخ فيها القلب: هل ترجعني؟
وبين أضلاعي جوًى ملهب يرتعد الوجد به والأنين
فهل يعود الحبّ عذب الرؤى يزهر بالفلّ وبالياسمين
وهل ترى ترجع أحلامنا ويرجع العهد الذي تذكرين

(كادر)
مِنَ الحوارات الشّعرية مع سماحته: الشعر حال نفسيّة منفتحة
رغم انشغالاته الدينية والسياسية والاجتماعية فإن السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله) كان لديه الوقت للاهتمام بالقضايا الأدبية عامة والشعرية بشكل خاص، كان يتابع باهتمام التجارب الشعرية القديمة والحديثة ويقرأ آخر النتاجات الشعرية ويتفاعل معها.
من إجاباته حول متابعاته الشعرية في إحدى الحوارات يقول السيد فضل الله: أستطيع القول بأن انفتاحي على الحياة وأنا طفل بدأ بالاستماع إلى الشعر وقراءته خصوصاً أنني من عائلة شاعرة، فربما تركت تأثيرات حفرت في اللاشعور عندي نبضات الشعر، فكنت أتحسسه من الداخل دون أن أعيه أو أستشعره، لذلك لم أعِ نفسي إلا وأنا شاعر. فقد كان بالنسبة لي شيئاً يعيش بطريقة عفوية جداً، فلم أتكلفه، ونظمي لقصيدة ذات خمسين بيتٍ ليس صعباً أمام ما كنت أرتجله من الشعر في بعض المناسبات حيث كان هناك من يتقارع بالشعر.

(كادر)
في رثائية السيد محسن الأمين
"علاقة روحية فكرية نهجية كانت تربط فقيدنا السيد محمد حسين فضل الله بالمجدد السيد محسن الأمين، فقد كان يرى في نهجه الإصلاحي والتجديدي على جميع الأصعدة. وفي نظرة إلى القصيدة الشهيرة التي رثى فيها فقيدنا السيد فضل الله المجددَ السيد محسن الأمين نرى جلياً شدة تأثر فقيدنا بالنهج الذي أرساه السيد محسن الأمين في العمل الرسالي. والقصيدة التي ألقيت في أربعين السيد الأمين كانت مناسبة مميزة للسيد فضل الله حيث كانت المرة الأولى التي أطل فيها على جمهور نخبوي كان يضم أهم المفكرين والعلماء والمثقفين من سوريا ولبنان، وكان السيد لم يتجاوز حينها السابعة عشر من عمره.
ولهذه القصيدة وقع خاص في نفس السيد حيث أنه كان لا يترك مناسبة في حديث أو حوار أو مقابلة إلا ويذكر أبياتاً منها ولا غرابة لأنه ضمّن القصيدة عدداً كبيراً من الأغراض التي تعد رسماً لرؤية السيد في الكثير من المسائل الإشكالية في حينها ولا تزال.
وما يميز هذه القصيدة أنها كما كانت رثاءاً للمصلح المجدد السيد محسن الأمين فهي تستحضر نفسها هنا الآن لتؤبِّن كاتبها المصلح والمجدد، ونقطتف منها:
في ذمَّة القدر المُبيد روحٌ تسيرُ مع الخلودِ
والدين عقيدة شعَّت على أفق الوجود
عرّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود
وأريتنا أن الأخاء من الهدى بيت القصيد
ومناهج توحي لنا روح التضامن والصمود
فالمسلمون… لبعضهم في الدين كالصَّرح المشيد
لا طائفية… بينهم ترمى العقائد بالجحود
والدين روحٌ برّةٌ تحنو على كل العبيد
ترمي لتوحيد الصفوف ودفع غائلة الحقود
عاش الموحِّدُ في ظلال الحق في أُفُق الخُلود
إعداد: وسام الأمين


محمد حسين فضل الله: العقلانية والحوار من أجل التغبير
مفاتيح لفكره المتجدّد

عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي وفي إطار سلسلة "أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي" صدَرَ كتاب جديد تحت عنوان: محمد حسين فضل الله: " العقلانية والحوار من أجل التغيير" وقد تضمن الكتاب (الصادر بعد رحيل سماحة المرجع فضل الله) مجموعة من الدراسات الهامة لعدد من الباحثين والمختصين وكانت تحت العناوين الآتية:
الفصل الأول: محطات من السيرة والمسيرة عن حياة السيِّد محمد حسين فض الله للدكتور جابر محيسين عليوي (باحث أكاديمي عراقي) وقد استعرض حياة السيِّد منذ ولادته حتى رحيله.
كما عرض الباحث جمال سنكري لنشأة السيِّد فضل الله وبواكير حياته الفكرية وهو نص مُقتبس بتصرف عن كتاب "مسيرة قائد شيعي" الصادر عن دار الساقي.
أما فضيلة السيِّد جعفر فضل الله نجل السيِّد فقد كتب في الفصل الثاني دراسة تحت عنوان "الاجتهاد عند السيِّد فضل الله": "المنهج الاجتهادي والمميزات والخصائص" وقد عرض فيه للمنهج الذي اتبعه المرجع فضل الله على صعيد الاجتهاد.
الفصل الثالث: جاء تحت عنوان "المنهج التفسيري عند السيِّد محمد حسين فضل الله: القرآن منهج حياة وحركة" للباحث والكاتب العراقي محمد الحسيني والذي عرض للأسلوب والمنهج الذي اعتمده سماحة السيِّد فضل الله في تفسير القرآن الكريم.
وفي الفصل الرابع: عرض الباحث والكتاب السوري نبيل علي صالح لرؤية السيِّد فضل الله للقضايا المعاصرة على ضوء الفكر الإسلامي حيث تحدّث بشكل مطوّل للمنهجية التي اعتمدها في معالجة العديد من القضايا المعاصرة كموقفه من العقل والعلم والعلاقة بين العلم والأخلاق ودراسة التاريخ الإسلامي ونظرته لقضية الحوار وموقفه من الحداثة الغربية والعلاقة بين الإسلام والغرب ونظرته للحرية وموقفه ورؤيته لقضية المرأة إضافةً لمواقفه من العمل الإسلامي والصحوة الإسلامية والخطاب الديني المعاصر ورؤيته للمرجعية.
كما تضمن الكتاب مُلحقاً خاصاً حول مواقف السيِّد فضل الله للثورة الإسلامية الإيرانية ومشكلاتها ودراسة خاصة أعدّها مدير مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر الدكتور نجيب نور الدين حول موقف السيِّد من المقاومة والصراع مع العدو الصهيوني.
وفي الختام جرى إعداد لائحة بالكتب والدراسات والأبحاث التي كتبها السيِّد فضل الله.
وفي مقدمة الكتاب التي أعدَّها الباحث محمد تهامي دكير باسم "مركز الحضارة" جرى الحديث عن أهمية المشروع النهضوي ـ التجديدي للمرجع السيِّد محمد حسين فضل الله وعرض المفاتيح والتجليات التي برزت في مواقفه وأرائه والتي تمثل الأسس التي حملها مشروعه الفكري ومما جاء في المقدمة:
"من خلال مسيرته الفكرية ـ العملية نضج مشروع السيِّد محمد حسين فضل الله الفكري ـ التجديدي والنهضوي وتكشفت ملامحه الأساسية ومفاصله الرئيسة بحيث نستطيع أن نتحدث عن مفاتيح وتجليات واقعية لهذا المشروع التجديدي ـ النهضوي.
وبالنسبة للمفاتيح، فمن يقرأ كتابات السيِّد فضل الله أو يستمع لمحاضراته وخطبه أو حواراته عبر الفضائيات أو المجلات والصحف، يُلاحظ الحضور والتواجد الكثيف والمكرر لمصطلحات من قبيل: الحوار والانفتاح، الحركة والتحرك، العقل والعقلانية، التجديد والتغيير، الحرية والتحرر.. الخ. وهذه المصطلحات لا شك تعتبر المفاتيح المميزة لمشروع فضل الله التجديدي النهضوي، بل يمكن اعتبارها مفاتيح شخصية وسيرته الحياتية والعملية والفكرية".
قاسم قصير

 

السابق
العلامة السيد علي مهدي الأمين: كبير علماء عصره فاض أدباً وشعراً نفيساً
التالي
«شيخ شعراء جبل عامل» السيّد محمد نجيب فضل الله (1908ـ 1990)