السيد فضل الله.. خادم الناس

سئل المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله يوما إن كان يخاف الموت فأجاب: «أنا لا أخاف من الموت لكنني أحب خدمة الناس وأرجو من الله أن يمنحني من العمر ما أتمكن فيه من خدمة الناس على أكبر مستوى».
حقق الله للسيد 74 سنة من الخدمة لم يذق فيها طعم الراحة، فلقّبه مستشاره الإعلامي والسياسي هاني عبد الله بـ«عدو الراحة الأول».
زهد السيد فضل الله براحته فحسب، غير أنه بقي على اتصال بالحياة التي يحبها رافضا الانزواء والزهد السلبي قائلا: «المهم أن تكون في قلب المحرقة ولا تحترق» فلم يعزل نفسه من أي موقع في الحياة حتى أنه زار قبل أن يرحل «مطعم الساحة» التابع لجمعية «المبرات».

تميز السيد بشخصيته العملانية وسرعة بديهته، بحيث لا يمكن لأي سؤال أن يفاجئه. مرة دخل الى قاعة الدروس الحوزوية حيث يعلم يوميا مجموعة من المشايخ فألقى تحيته المعهودة: السلام عليكم، ثمّ أردف على طريقة العلماء: صبحكم الله بالخير. فضحك المشايخ، فالتفت السيد سائلا: لم الضحك؟ فقيل له إنه المساء يا سيد وأنت صبّحتنا! فأجاب شعرا:

صبحته عند المساء فقال لي أهزئت بي أم كان منك مزاحا
فأجبته إشراق وجهك غرّني حتى تخيلت المسـاء صباحا
«عمره 74 سنة ضوئية» يقول هاني عبد الله ويخبر أحد العلماء ممن عاصروه في النجف: «عندما كنا نقع على أوراق كتبها سماحته كنا نشعر وكأننا حصلنا على كنز، لأن قراءات السيد منذ شبابه الأول كانت معاصرة وحديثة».
ردد دوما أن من لا يقرأ الصحف يوميا هو أمي، وكان ينهل من الصحف اللبنانية والعربية والمجلات الأدبية والفكرية والسياسية لكن المدهش أنه كان يطلب تزويده اسبوعيا بالمجلات الفنية والنسائية ومنها «الشبكة» و«سنوب الحسناء» ومجلة «لها» وسواها ولما سئل عن السبب أجاب: «من المفترض أن أمتلك جوابا عن كل ما تطرحه المرأة عليّ من هواجس وتساؤلات».

لم يقارب المواضيع التي طرحت عليه بخفة أو سطحية، فراح يقرأ كل ما نشر في العالم عن موضوع الإستنساخ قبل أن يقرر أن أية فتوى لن تكون كاملة إلا بعد اكتمال هذ التجربة. أبرز فتاويه التي أثارت جدلا دفاعه عن المتعة كنظام حياة مشترطا تطبيقها بالطريقة الموضوعية، وما يتعلق بشهر رمضان فأفتى بأن بداية الشهر ونهايته تعتمدان على رأي الفلكيين. فتاويه عن المرأة كثيرة وكان يعتبرها شخصية سياسية واقتصادية مستقلة ليس للزوج أن يفرض عليها أن تنتخب شخصا معينا أو لائحة معينة وليس له أن يتدخل في ما تمتلكه من ثروة وليس لها أن تأخذ رأي ولي أمرها في موضوع زواجها لأن الرشد برأيه لا يتعلق بالسن بل بالعقل. أفتى بحق المرأة بالدفاع عن نفسها وأن ترد اعتداء زوجها عليها.

سأله مرة أحد الصحافيين عن آخر كتاب قرأه فأجاب: أنا في كلّ يوم أقرأ مئتي كتاب. فتعجب السائل وقال: كيف يكون ذلك؟ فقال: أنا في كل يوم ألتقي 200 شخص واتعلّم من جميع هؤلاء. فسأله الصحافي متعجبا: أنت السيد فضل الله تتعلم من الناس جميعا؟ فأجابه: لكل ّإنسان تجاربه، وأنا أتثقف من تجارب الآخرين وأتعلّم حتى من الأطفال».

نعم الأطفال أحبهم السيد كثيرا وطالما خصص وقتا لزيارة أيتام جمعية «المبرات» التي أسسها لاحتضانهم عام 1978. كان يعتبر بأن الطفل هو اهم مؤسسة في الحياة وطالما نصح الآباء الذين يقصدونه طالبين النصح بقوله: «لا تعتقدوا بأن أطفالكم لا يفهمون، بل يجب أن تتعاملوا معهم بطريقة أنهم يفقهون كل ما يدور من حولهم. في زياراته الى مؤسسات «المبرات» طالما جالس الأساتذة طالبا منهم ألا يعطوا الطفل من علمهم فحسب، بل من حبهم وعاطفتهم ووجدانهم، قائلا: «تعاملوا مع الأطفال تعامل الإنسان مع الآخر المحتاج إليه». وعندما مرت المبرات بأوضاع مادية ضيقة في وقت من الأوقات، قال «لو اقتضى الأمر أن أنزل الى الشارع للتسوّل من أجلهم لفعلت».

تميز السيد فضل الله بخلفيته الإنسانية التي برزت لديه مذ كان في النجف حيث يروى أنه كان يزور الفقراء والمساكين في ضواحي النجف ومناطق البؤس يتفاعل معهم ويعيش مشاكلهم. ويقول هاني عبد الله: «قرن السيد الأقوال بالأفعال، فلم يستنكف عن استقبال صحافي كان شاغله الشاغل مهاجمته. سئل مرة عن سبب دعوته لمحبة الأعداء فقال نحن لا نحارب الإنسان في العدو بل نحارب عداوته. ولما طلب منه هذا الصحافي استقباله عبر أحد الوسطاء سرعان ما قبل فضل الله قائلا عبارته الشهيرة: العقل مفتوح والقلب مفتوح والبيت مفتوح. ولما سئل عن سبب قبوله استقبال هذا الشخص، أجاب مستشهدا بالإمام الكاظم القائل: يا بنيّ إفعل الخير الى كلّ من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهل الخير، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الى يسارك فاعتذر إليك فاقبل اعتذاره».

يقول هاني عبد الله: «لطالما ردد لمن يسائلونه عن مسامحته الدائمة للأعداء بقوله: «عندما بدأت العمل الإسلامي نسيت شيئا اسمه محمد حسين فضل الله، فقد تخلصت كليا من فضل الله المزاج لحساب محمد حسين فضل الله الرسالة». هذا السلوك جعل كثرا من الناس وبينهم مشايخ يقصدونه في ايامه الأخيرة طالبين المسامحة لأنهم اساؤوا إليه سابقا وكان يرفع يداه الى السماء أمامهم ويقول: «أنتم أبنائي وأحبائي، سامحكم الله ورعاكم».
يروي عبد الله: «لم أره في حياتي يؤنب شخصا وحين كان صوته يعلو في مجالس علمية على المشايخ كان يستدرك قائلا إنه انفعال العلم».

عاصر هاني عبد الله فضل الله منذ العام 1986 ويروي أنه في حرب تموز 2006 جاء من يقول للسيد إنك إذا استمررت على هذه المواقف فإن كل مؤسساتك سوف تتداعى، فأجاب: «إني داعية الى الله، ومن مسؤوليتي الشرعية أن أقف الى جانب قضايا الأمة والمقاومة، والإصرار على هذه المواقف ولو أدى ذلك الى أن ندفع الثمن».

في اليوم الثاني لحرب تموز 2006 قال هاني عبد الله لسماحته: «إن الحرب أصبحت تنذر بالشيء الخطير، ويبدو أنها كبيرة وشاملة، وعليك أن تذهب الى الشام، لأن هذه المنطقة ستدمّر على ما يبدو». فنظر اليه السيد نظرة استهجان وقال بهدوء: «أنا لا أترك الناس»، وبقي في محراب مسجد الإمامين الحسنين عندما سقط منزله بفعل غارتين إسرائيليتين في حارة حريك.

كان السيد حريصا في ايامه الأخيرة على تكرار توصياته بوجوب الحفاظ على وحدة المسلمين وحفظ المقاومة وحمايتها كما حفظ فلسطين وقضيتها. بين حشرجات الموت سأله أحد الزائرين: هل تشعر بالراحة يا سماحة السيد؟ فأجابه: «لن أرتاح حتى تزول إسرائيل».

السابق
الكتيبة الاسبانية تخرج طلاب اللغة الإسبانية
التالي
حـزب اللـه من 1982 إلى 2011: هكـذا أصبح لاعبـاً أسـاسـياً