الصحوة الأميركية المتأخرة!

 عندما يصحو الإنسان متأخراً وتكون الشمس قد سطعت, لا يمكنه أن يلومن سوى نفسه لتفويته فرصة التأثير في مجرى أحداث طرأت فيما هو غارق في سبات عميق!
اعتبر المفكر المخضرم الأميركي زبيغنيو بريجنسكي المستشار الأول للأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر أن الربيع العربي, هو "جزء من الصحوة السياسية العالمية". فالذي نشهده من فورات وانتفاضات للشعوب في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط وفي غالبية بلدان إفريقيا الشمالية يشكل بطريقة أو أخرى استذكاراً أو استكمالاً لما حصل في البلدان التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق, ما يؤكد نظرية بريجنسكي أن القدرة الأميركية القطبية على الإمساك بالقرار الشرق أوسطي عبر التحكم بالمفاتيح المحورية لهذه المنطقة من العالم, هي في طور التراجع المستمر. إذ يرى ان الولايات المتحدة باتت خلف القطار وليس أمامه. وفي الآونة الأخيرة تعددت التحليلات والكتابات حول محاولة الولايات المتحدة الجري السريع لاستقلال هذا القطار المنطلق بأقصى سرعة.
في الحقيقة كل المؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة فوجئت بتتالي اشتعال بؤر الثورات الشعبية عبر العالم العربي, ولم تكن تتوقع هذا التسارع الحاصل في مشهدية المسلسل التصدعي لبعض الأنظمة العربية "الصديقة". مع العلم أنها حاولت تلميع صورتها عبر التنصل من ارتباطها بهذه الدول المنهارة والمتفككة في اللحظة الأخيرة أي عندما استفاقت لدنو مرحلة الخطر. فجاءت مبادرات قد تكون غريبة في وقتها, ولكنها هادفة كونها أماطت اللثام عن جوانب عديدة عن الفساد المستشري داخل هذه الأنظمة العربية "الصديقة". والجدير بالذكر هو أن نشر هذه الوثائق جاء بعد أن فشلت مساعي الولايات المتحدة في لي ذراع حكومة إسرائيل, وعجزت عن إحراز أي تقدم في مجال إقناع حكومتها في الكف والتراجع عن خرقها لكل الأعراف الإنسانية والحقوقية الدولية في طريقة تعاملها مع الفلسطينيين. وأدركت أن فشلها هذا سوف يترجم حنقاً وغضباً من الشعوب العربية والإسلامية على الأنظمة القائمة والتي تمارس سياسة النعامة حيال رخاوة وتقهقر الموقف الأميركي ازاء التعنت الإسرائيلي.
كانت تعرف الولايات المتحدة انها تدعم أنظمة استبدادية فاسدة فتؤمن لها المساندة في خطفها لحقوق شعوبها. ولكنها كانت تراهن أيضا على قدرتها على التنصل من هذه الأنظمة في اللحظة الحاسمة. ومسلسل الأحداث اليوم ينبئ بأنها لم تفلح لا بهذه ولا بتلك, أي أنها لم تنجح بالتفوق على عناد وتشبث الحكومة الإسرائيلية, ولم تتمكن في المقابل من ترقيع هذا الفشل عن طريق قطف ثمار "ويكيليكس", بهدف التقرب من الشعوب العربية. وعلى أساس هذه المقاربة يمكن القول ان الولايات المتحدة هي اليوم في مأزق الساحر الذي انقلب عليه سحره. اذ أن نشر الوثائق بدل أن يساهم في تخليص الإدارة الأميركية من ورطتها عن طريق تلميع صورتها على صعيد الشعوب العربية, عمل على إغراق هذه الصورة في وحول أنظمة فاسدة ومارقة. وعندما استفاقت الولايات المتحدة على واقع نيران ثورات عارمة تمتد في هشيم الأنظمة "الصديقة" المستبدة واليابسة, قد فات الأوان على أي مبادرة استلحاقية أخرى. فالقطار كان قد غادر المحطة وغدت أميركا كما قيل "تلهث للحاق به".
والحق يقال, كان الرئيس باراك أوباما قد أدرك أكثر من سواه مدى خطورة الأوضاع في الشرق الأوسط, ناهيك عن أهمية ومحورية تداعيات السياسات الخاطئة المتبعة فيه, ولكن تركته على صعيد هذا العالم كانت جداً ثقيلة ومضنية. فالمخاض الثوري ومجمل الانتفاضات الشعبية الغاضبة والتي اجتاحت مختلف الأقطار العربية إنما تشكل تعبيراً وترجمة لفشل سياسة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ومجموعة "المحافظين الجدد" التي كانت تحيط به ويلتزم بتوجيهاتها. وليس بعيداً عن موقف الرئيس أوباما, يرى العديد من الباحثين والمؤرخين ان كل شيء يبدأ وينتهي بمنطقة الشرق الأوسط, كونه يشكل المختبر لكل الستراتيجيات, سيما وأن تداعيات هذه الستراتيجيات قد تمتد بالمساحة وعبر الزمن. فإن نجحت كبرت وتعاظم مدى تأثيرها, وإن فشلت جرت الويلات على العالم العربي أولاً وعلى مجمل العالم من بعده.
من هنا يمكن القول أن سياسة الغباء التي انتهجتها الولايات المتحدة في كل خطوة خطتها في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية, قابلتها تداعيات كارثية وقد يكون أخطرها السياسة التوسعية التي مارستها وما زالت دول مارقة مثل إيران, استفادت من وهن وتراجع قوة وتأثير حنكة السياسة الأميركية التقليدية. أما الخاسر الأكبر نتيجة سياسة الغباء هذه, فكان العالم الإسلامي ذا الغالبية السنية, والخاسر الثاني العالم أجمع الذي يقف عاجزاً أمام قدرة إيران النووية المتعاظمة. وما يجب التوقف عنده اليوم هو أن سياسة الغباء هذه كونت على صعيد الشعوب العربية والإسلامية, حالة من الاستياء والغضب العارم, احتقن وكبت على مدى عقود في ضمير وذاكرة هذه الشعوب ووصل إلى أقصى درجات حالة الغليان. أما الصورة المسؤولة عن ذلك والمسببة له, فهي تتمثل من ناحية بالعجز الأميركي التام حيال التعنت والصلف الإسرائيليين, وتتمثل من ناحية أخرى بالموقف المتراخي والمتراجع والواهن حيال التمدد الأخطبوطي للنظام الإيراني. ومن هذا المنطلق يمكن تفهم وتفسير موقف الشعوب العربية الثائرة اليوم, الرافضة لأي تدخل في شؤون ثورتها, إن من الولايات المتحدة أولاً, أو من أي دولة عربية أخرى ما زالت ترتبط بعرى "الصداقة" مع الجانب الأميركي. وذلك رغم كل بيانات التأييد الصادرة عن مجمل الدول الأوروبية, وعن الولايات المتحدة تحديداً, والتي تعبر عن مساندتها وتعاطفها مع عذابات الشعوب, التي تراها "اليوم" تعاني الأمرين من أنظمة قاتلة ومارقة .
لذا من الممكن القول بأن أقصى ما يمكن للولايات المتحدة فعله, ليس التنصل من ثقل الأنظمة المارقة بأي وسيلة ممكنة للحاق بركب الثورات الشعبية, التي سوف تؤمن الاستمرار بعد زوال وسقوط هذه الأنظمة, ولكن ربما التركيز أولاً على عملية التقرب من هذه الشعوب الغاضبة لترميم وترقيع ما تخرب وأُفسد على مستوى العلاقة معها. 

السابق
3 سعوديين يؤدبون والدهم حتى الموت لتحرشه جنسياً بابنته
التالي
فيلسوف النظام … وليد المعلم