فائض وطنيّ يسرقه طفيليّون وطائفيّون

مسألة المقاومة عند الشيعة تنطلق من الالتصاق بالسلاح. صار الشيعي المقتنع بخيار المقاومة فاتحاً منزله ومتجره ومدرسته ومصنعه ومكتبه لاستيعاب أكبر قدر من الصواريخ. لا تجد المقاومة صعوبات حقيقية في اختيار معظم ما يناسبها من أمكنة ومطارح تحتاج إليها في سياق بناء الجهوزية. والأهل المباشرون، يريدون فعلاً أن تستخدم هذه الصواريخ في وجه إسرائيل، سواء لردعها ومنعها من تكرار العدوان، أو للدفاع عن النفس لحظة المواجهة، ولنصرة سوريا وأهل فلسطين. لكن هناك حافز آخر نشأ خلال العقدين الأخيرين، وهو الذي يجعل كل الشيعة، باستثناء أقلية صغيرة، يتصرفون على أن سلاح المقاومة، قبل قضيّتها، بات يمثّل جانباً من هويتهم الوطنية، ثم صار عنواناً للحضور والنفوذ والتمثيل والمرجعية.

ومع أن أبناء هذه الطائفة يدفعون الأثمان المباشرة، إلا أنهم يتمسّكون أكثر بهذا السلاح، لأن ما تحقق لهم يحتاج إلى حماية، وحتى اللحظة، لا يبدو أن لدى الغالبية من هؤلاء غير السلاح وسيلة للحماية، ولا سيما أن الشعور بالتآمر تجاوز حدود العدو، وصارت الضرورة تفرض مجابهة إسرائيل، أو الذين يرفضون السلاح في الداخل. بهذا المعنى، فإن العقل الجماعي للشيعة لا يرى في استخدام السلاح داخلياً جريمة، بل يرى أنه حاجة فرضتها الظروف، وأنّ مَن يقف في وجه السلاح داخلياً هو في واقع الأمر كإسرائيل تجب مقاتلته.

لكن الغطاء الشيعي، أو الالتحام الشعبي لشيعة لبنان مع المقاومة، بات يتطلّب علاجاً من نوع مختلف. ليس بيننا مَن يقوم بهذه المهمة. وبهذا المعنى، نكون أمام جملة وقائع، أبرزها أن قائد المقاومة بات هو الرمز الذي يختصر الموقف. لم تعد هناك مشكلة عند أحد في أن يكون السيّد حسن نصر الله زعيماً للشيعة. نبيه بري نفسه لا يتصرف لحظة على أنه ينافس السيّد على زعامته. المجموعات الثقافية والأندية والروابط القائمة تاريخياً أو حديثاً، تتصرف هي أيضاً على أساس أن السيّد فوق النقد أو المساءلة، وأنه يمكن انتقاد حزب الله والاختلاف معه، ونقد قياداته وسلوكيات أفراده، لكن السيّد هو زعيم الطائفة لا زعيم الحزب فقط. صورته في منازل الشيوعيين والقوميين والأسعديين أمر عادي. يمكنهم في لحظة أن يعطوه ألقاب قادتهم التاريخيين أو رموزهم النضالية. ليس هناك ما يوجب على الشيعي أيّ ثمن خاص جرّاء قبوله بزعامة نصر الله.

نجح السيّد حسن في أن يوحّد خلف زعامته كل الفئات الطبقية والاجتماعية. يقف الأستاذ الجامعي مع صاحب المعمل والموظف في إدارة رسمية والتاجر والمغترب كما المزارع والعامل والعاطل من العمل، يقفون معاً في طابور ليقترعوا للّائحة نفسها التي أوصى السيد حسن بدعمها. صار نصر الله زعيماً للذين يصلّون صلاة الليل والذين لا يصلّون، واللواتي يلبسن التشادور واللواتي يلبسن الشورت. أمكنه احتلال موقع في حجر الزاوية للعقل الجمعي عند الشيعة، لكنه لا يقدر على بتّ أمورهم الخاصة.
عندما قاد نصر الله شخصياًَ حملة احترام قوانين الدولة، خرج متمرّدون، أو هامشيون من الفقراء، يشكونه، كما أصحاب مصالح يقودون أعمالهم على الطريقة اللبنانية التقليدية حيث «الزعبرة» والرشوة والتشبيح. شعر هؤلاء بأنه يطلب منهم أشياء فوق طاقتهم. وعندما حذّر من الآفات الخطيرة وسط حياة الناس اليومية، نظر تجار المخدرات إلى صورته المعلّقة في منازلهم وقالوا: الله يسامحك يا سيّد! وعندما قال إن الوحدة الشيعية تعلو على أي اعتبار، أحبط الذين يأملون الانتفاضة باسم «الشعب يريد تحسين صورة الطائفة». فجأةً، أمام حقائق التعب اليومي، يصبح الرمز ـــــ الزعيم ـــــ القائد، مطالباً بموقف، وهو في هذه اللحظة يعود أميناً عاماً للحزب، أو قائداً للمقاومة الإسلامية. وهذه المسؤوليات توجب عليه إعلاء شأن منظومة من المصالح التي تخص المقاومة، وقد لا تلبي حاجات كل الرعيّة المسلِّمة له بالزعامة.

وإلى جانب ما يُتهم به الحزب أو السيد بصفته التمثيلية، من أنه يعاني فائض قوة وفائض نفوذ، إلا أنه في الحقيقة يتمتع بفائض من الصدقية والمسؤولية، يتيح له دفع غالبية شيعية غير مسبوقة إلى أن تنسى للحظات كل الملاحظات والخلافات والانتقادات والتوجه إلى صناديق الاقتراع لتجديد الثقة بمن أعلنت المقاومة دعمها لهم. وهو في هذه اللحظة بات، من حيث يدري أو لا يدري، مسؤولاً عمّا يقوم به ممثّلو هذه الطائفة داخل مؤسسات الدولة، كما صار مسؤولاً عن نوعية الخدمة في مطعم «الساحة» أو حماية المستهلك من تجار المواد الغذائية، أو عدم احترام أرباب عمل لعشرات الآلاف من العاملين في مؤسسات شيعية صغيرة أو متوسطة، أو فوضى الظاهرة العمرانية والعشوائية منها على وجه الخصوص، ومسؤولاً عن التخلف في بناء مؤسسات قوية راسخة تتيح تكوين مصادر للحياة الدائمة. وصار مسؤولاً عن مبالغات من يمكن وصفهم بـ«طالبان» الشيعة الذين يغالون في المذهبية ورفض الآخر. وعليه التدخل لمنع قارئ عزاء من ارتكاب الأخطاء وهو يقدم السيرة الحسينية. وصار أيضاً مسؤولاً عن أبناء ضواحي الضاحية الذين يحتلون الأرصفة والشوارع ولا يهتمون بأن ينام غيرهم. وصار مسؤولاً عن غياب السجالات الحقيقية التي تدفع إلى المحاسبة والتغيير. وعليه تلقى كل المسؤولية عن رتابة بدأت تلوح داخل الجسم التنظيمي لحزب الله أو الأطر والجمعيات المتصلة به مباشرة أو بنحو غير مباشر. ووصل الأمر إلى حدّ غير مسبوق من الخطورة، عندما قرر الناس القول: دع السيد جانباً، لكن لدينا مشكلة مع هذا أو ذاك من المحيطين به. ثم يشار إليهم بالبنان عندما يجري نقد السيطرة المستمرة لتيار الرئيس بري على إدارات ومفاصل أساسية في الدولة، وأن موقف السيد نصر الله هو العائق أمام حركة تطويرية لتمثيل الشيعة ونمو الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية عندهم.

وفي عملية اختصار المشهد الإجمالي في صورة الشخص، ثم أسطرته بطريقة تجعل الرعب يسكن قلوب من يفكرون للحظة في أن إسرائيل قد تصل إليه في لحظة غفلة، في ذلك ما يجعل النقاش بشأن موقع المقاومة في قلب الهوية الوطنية رهن الحسابات التي يخضع لها قرار الحزب الذي يمثله السيد حسن، فيما يجري تعاظم بناء من الانعزالية الفكرية والتقليدية اللبنانية بأسوأ صورها من حول مؤسسة الرجل. والسلوكيات اليومية، تجري تغطيتها بالمصلحة العليا، كأن إدارة مقهى، أو شركة مقاولات، أو مؤسسة ترفيهية، أو مشاريع إنمائية لبلديات وأندية، تحتاج إلى سياق غير السياق الذي يسير عليه باقي اللبنانيين. وفي هذه الحالة، تزداد الريبة عند الآخرين. وفي هذه الحالة تصبح الصورة بالمقلوب.

أن ينجح شيعي في الوصول إلى موقع نافذ في السوق التجاري أو المؤسسة الخاصة هذه أو الإدارة الرسمية تلك، فهو في نظر بقية اللبنانيين ناجم عن قوة المقاومة. وبالتالي، تصبح المقاومة مسؤولة عن سلوكيات هذا الفرد. وعندما تحصل المنافسة، وهي غير حقيقية في واقع الأمر، يلجأ الآخرون إلى استحضار المقاومة كوسيلة استخدمها الشيعة رافعة في ارتقائهم الاجتماعي، فتتحول بحدّ ذاتها إلى خصم، أو أنها مصدر قوة الخصم، فيما هم لا يملكون ما يقابلها فيجعلهم يخسرون. بهذا المعنى، نجح زعران من الشيعة، وانتهازيون من الجسم اللصيق أو القريب جداً من المقاومة، في استغلال هذه القوة التي تتجاوز حجم لبنان، لتحقيق مصالح شخصية لا تعود أصلاً بفائدة على «العموم من الشيعة».

وفي هذه الحالة، تبرز إلى الواجهة حالات تشبه ما كان موجوداً بكثرة عند طوائف أخرى، مع فارق أن الآخرين كانوا يستندون إلى زعامة ذات أصول طائفية أو عائلية، فيما يجري وسط الشيعة استغلال مقاومة قامت بدماء عشرات الآلاف من المواطنين. والجريمة الأكبر عند هذا الجسم الطفيلي، أنه يمنع على الآخرين، من بقية الشيعة ومن بقية اللبنانيين، حق التقرب من المقاومة، وهو يمنع عنهم أولاً حقهم في ادّعاء أنهم شركاء في هذه العملية، علماً بأن كل لبنان دفع جزءاً من كلفة المقاومة. يتصرف هؤلاء بانتهازية شديدة، تقوم على خشية من أن يتقدم أحد ليشاركهم في استثمار قوة المقاومة في منافسة على أمور خاصة.

مشكلة الشيعة الآن مع الهوية الوطنية أنهم يؤدون دوراً مركزياً في بنائها على أساس مفاهيم الاستقلال وتطوير التمثيل السياسي والاجتماعي. لكنهم يفعلون ذلك وحدهم. والشراكة مع الآخرين مرتبطة بجدول أعمال سياسي، بينما يقود متآمرون حروباً مفتوحة ضد المقاومة وضد محاولة تطوير بنيتهم الاجتماعية، وذلك من منطلقات طائفية. فتراهم يقعون في الفخ، فيسعون إلى تثبيت نفوذهم من موقع طائفي، من دون الانتباه إلى أنهم يحولون المقاومة إلى أداة في معركة لم تخلق لأجلها!.

السابق
التباين حول بند المحكمة يبرز مأزق الأكثرية
التالي
ماذا فعل المسؤول الأوروبي في دمشق قبل أيام قليلة؟