السيد محمد باقر إبراهيم بداهة الشعر وطرافة الموقف

 بعد نوادر الشيخ نجيب مروة وفكاهيات موسى الزين شرارة ونوادر الشاعر الساخر السيد جعفر الأمين، «عامليات» تتناول الراحل السيد محمد باقر إبراهيم في حلقة رابعة.

عمل السيد جعفر إبراهيم على جمع ديوان ابن عمه السيد محمد باقر إبراهيم ونشره بعد وفاته عام 1989. إن ما أوحى إليه بهذا العنوان الجميل للديوان «قطوف دانية» هو روابط الألفة والانسجام الحميمة التي سادت بين الاثنين والتي «هي أقوى وأرسخ من علائق القربى ووشائح الرحم حيث كانت لنا مجالسنا الخاصة ولقاءاتنا الحافلة وسهراتنا وأسمارنا، فكانت واحة ممرعة بقطوفها الدانية وأنياتها الحانية».
أما الشاعر المطبوع وصاحب السليقة ذات العاطفة الجياشة والذي يفيض شعره بعبق أرضه العاملية الغنّاء والذي يأبى قريضه إلا أن يدلنا على أصل وسمو منبته ونبل محتده وعنيت شاعرنا الراحل موضوع مقالنا السيد باقر «أبو عدنان» فإن ما يميّز الأخبار والأشعار الواردة في ديوانه أنه يروي الحادثة حتى لو كان هو موضوع التهكم فلا يحرجه ذلك ولا يمنعه من قول الحقيقة أشعراً كان موضوعها أم نثراً. وقد قام رحمه الله بناءً على إشارة بعض «العلماء الأفاضل» على حدّ قوله بجمع ما علق بذهنه من شعر نظمه ومرويات وحوادث طريفة صادفته خلال مسيرة حياته المديدة التي قضاها بالتعليم ينمي عقول الناشئة في بداية عهد الاستقلال الماضي في زمنٍ عزّ فيه العلم وقلّت المدارس «فكاد المعلم أن يكون رسولاً» على حد قول الشاعر أحمد شوقي.
يقول السيد الراحل: «في أيام الحرب العالمية الثانية كنت مرافقاً لعمي السيد محمد إبراهيم – وكان ذا شأن ومرتبة دينية واجتماعية مهيبة وتبوَّأ منصب القضاء الشرعي في النبطية – يقول: خطر لي بيت من الشعر تذكرته في حينه وجعلت أردّده:
أنا في الحرب ما جرّبت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
فسمعني السيد وابتده هذا البيت معلقاً:
إن كان الغزال غليظ خصر كخصركم فما حال الجمال!
فاستحسنت منه ذلك وقد جاء في محلّه لأنني حينها كنت أقرب إلى السمنة»!
بين الزعيمين:
يقول الشاعر السيد أنه بقي يحلم بأن يصبح معلماً رسمياً في الدولة بدلاً من التقلّب بين المدارس الأهلية في السكسكية وعدلون حيث كان يعمّ الفقر بين الناس فلا أجرٌ ولا معاش ثابت يغني عن فاقه لئيمة قد تحوجه لمن هو أدنى منه رتبة وفهماً وحسباً.
وشاءت الصدف أن يزور زعيم الجنوب آنذاك رئيس المجلس النيابي أحمد الأسعد بلدة السكسكية فأنشده شاعرنا قصيدة يخطب بها ودّه لنيل غايته المنشودة ومطلعها:
لأحمد في الأوج الرفيع السامي مجدٌ يشعّ بجبهة الأيام
أو ليس هذا الليث نجلٌ للألى سادوا البلاد بعفّة وذمام؟
وعندما انتهى من القصيدة علا التصفيق وصرخ أحمد الأسعد: أحسنت يا سيّد، ووعده أن يكون معلماً رسمياً في أقرب فرصة.
ولأن صاحب مدرسة السكسكية وكثير من أهلها كان يدين بالولاء لآل عسيران خصوم آل الأسعد فقد أقفلت المدرسة التي كان يعلم فيها شاعرنا وبقي سنة عاطلاً عن العمل، وعندما أخبر أحمد الأسعد بما حصل أجابه معتذراً: «بعدنا عم نخابط».
ولكي يتخلّص من هذه الورطة فقد انتهز فرصة زيارة الزعيم رشيد بيضون وهو المناوئ للزعيم الوائلي أحمد الأسعد واستقبله شاعرنا بقصيدة، وكان قد أنشأ الزعيم البيروتي الشيعي كشافة الطلائع:
نحن الطلائع من منهم يضاهينا نحن الآلى نتبع الغرَّ الميامينا
يشعُّ في صدرنا سيفٌ لحيدرة ذاك الذي حضن الإسلام والدينا
فعلا الهتاف وأطلق الرصاص وشكره رشيد بيضون ووعده بأن يجعل المدرسة رسمية ويجعله فيها معلماً رسمياً. غير أنه أخلف وعده بعد ذلك قائلاً لشاعرنا أنه يتوجّب أن يستحصل على الشهادة المتوسطة وكانت في ذلك الزمان أعزّ من الشهادة الجامعية. فأسقط ما في يد سيّدنا وخرج من عند الزعيم خائباً.
غير أنه عندما جرت الانتخابات عام 1946 انتصرت لائحة الأسعد في الجنوب اللبناني انتصاراً كاسحاً جعلت شاعرنا يقرّر العودة إليه وابتدرهُ في دارته بالطيبه بقصيدة عصماء بزَّت ما قبلها:
حلَّق فغيرك قد أسف وهو ما بلغ الهدف
أنت الزعيم لعامل وعليك نصر الله رفّ
يا أحمد الفذ الذي من فضله تتلى الصحف
الله أكبر من رأى سيفاً لوائل قد رعف
قد أيدته ملائك صف يواكب إثر صف
فطرب السامعون وبدأ بعضهم يطلق الرصاص وأحمد الأسعد يصفق ويقول هذا هو الشعر. وصادف إثر ذلك أنه بعد أيام وقع الحدث السعيد وتسلّم السيد باقر كتاب تعيينه معلماً رسمياً في مدرسة يونين في البقاع الشمالي فغمرته السعادة بعد أن حقق أمنيته التي كاد في سعيه لطلبها أن تودي بسمعته ومهابته وهو الذي ما تعوّد بذل ماء وجهه لمن لا يستحق، وقد ظلّ وفياً حتى آخر حياته للزعيم أحمد الأسعد الذي وفى بعهده بدوره لشاعرنا المعلّم.
ذكريات يونين:
يقول شاعرنا أنه بينما كان ممطياً دابة تقلّه بين بعلبك ويونين مركز عمله الجديد تذكّر وهو يدوّن مذكراته ما قاله ابن عمه ناشر ديوانه عقب وفاته السيد جعفر إبراهيم واصفاً رحلته:
وأمّ بلدة يونين يخف به جحش أصيل بزهوٍ فوقه ركبا
يستشعر الجحش زهواً حين يركبه سري قوم زكا فرْعاً وطاب أبا
فلا يفنعص إجلالاً لفارسه ولا ينوعر إما ريع أو لِغبا !
وعندما وصل البلدة وتعرّف إلى سراة قومها من آل زغيب وغيرهم وفيهم الشيخ الشاعر محمد زغيب والشيخ باقر زغيب الشاعر والأديب الذوّاقة، فعندما وصل أراد شاب منهم أن يمتحن علمه تأميناً له على فلذات أكبادهم الموكل سيدنا بتعليمهم وتأديبهم فقال له أحكم بمعنى هذا البيت من الشعر الذي اختلفنا فيه:
وذات حليل أنكحتها رماحنا حلالاً لمن يبني بها لم تطلق
فأجابه ما معناه أن السبايا في الحروب تحل للسابي، ثم انطلق يحدثهم أحاديث العرب وفرسانها وأشعارهم حتى أيقن الجميع أنهم أمام أستاذ فذ وسمع أحدهم يقول للآخر: لم يأتكم أستاذ كهذا منذ فتحت مدرسة يونين.
وفي اليوم التالي كتب المختار عريضة وقعها معظم الأهالي وأرسلت بالبريد إلى وزارة التربية تشكرها على هذا المعلم وذيَّل الشيخ محمد زغيب العريضة بهذين البيتين:
من آل إبراهيم وافى سيِّدٌ يونين منتدباً لعلم صغارها
فبعلمه وبفضله أجدر به من أن يكون معلّماً لكبارها
ومن مراسلات شاعرنا وردوده الطريفة في يونين وهي التي كانت عامرة بمجالس الأنس والشعر والشاي يذكر شاعرنا أن الشيخ باقر زغيب أرسل له أبياتاً جاء فيها:
إله الشعر أرسل لي رسولاً فصيحاً عند تلقين الدروس
يقول إدع «أبا عدنان» عصراً إلى شرب المدامة والكؤوس
من الشاي اللذيذ الطعم حتى يدور الأنس في أم الرؤوس
وهذا اليوم ليس لدي شاي وأصبح فارغاً واللهِ كيسي
فأرسل طبخة كبرى وإلا وقعت اليوم في حرب ضروسِ
وفي سهرة الشاي المعهودة أتاه الردّ من شاعرنا قائلاً في بعض أبياتها:
قد جاء يطلب مني الشاي معتذراً الشاي منك ومني النار أحميها
ويدعي أنني تلميذه سفهاً فليهزأ الشعر والدنيا ومن فيها
وفاته أنني إن قلت في ملأ قصيدة فالدراري من قوافيها
والشعر ملكي دعه لست تعرفه إذ صاحب الدار أدرى بالذي فيها
وفي قصيدة في نهاية الديوان للشاعر بعنوان «بلاء»، يذكر أنه ابتلي بفتق فذهب لمستشفى الدكتور وهبي شعيب وعندما فحصه قال له: هذا «قرق» وليس فتقاً لا بد من عملية جراحية.
فتأسف على نفسه وسلّم أمره لله ولمبضع الجراح كي لا يكنّى «بأبي قرق». وفلتت منه هذه القصيدة التي توخيّنا تشذيبها لما فيها من تسميات صريحة كما قمنا بحذف بعض الأبيات لدلالة ربما غير متحشمة هنا أو هناك، وعذر الشاعر الراحل أنه أرسلها لأحد أبناء عمومته لا للنشر وعلى سبيل المداعبة وهو العلاّمة السيد علي إبراهيم فما كان من الأخير إلا أن تولّى نشرها بين البريّة حتى إذا ما خرج أبو عدنان من المستشفى وجد الكل يردّد هذه القصيدة تحت عنوان «قرق أبو عدنان». ومما جاء فيها:
الدهر مذ كان دهرٌ ظالم عاتي أما الدليل على هذا فـ….اتي
إن المصائب في الدنيا منوعة لكنما القرق من أدهى المصيبات
فالقرق يخفي ويمحو اسم صاحبه مستبدلاً باسمه… الكنايات
والنوم من بعد لم أظفر بلذته لما سلبت من المذكور لذاتي
قالوا شعيب يزيل القرق في عجل فاذهب إليه ولا تخشى الجراحات
جعلت روحي وقرقي رهن مبضعه مستسلماً للمنايا بضع ساعات
ثم انتبهت لا قرق ولا ألم ماضي العزيمة للمستقبل الآتي
وفي إحدى الدورات التدريبية التعليمية في النبطية أحب أن يرطّب الجو بشيء من المرح الذي اشتهر به شاعرنا بعد سلسلة من المحاضرات المملة، فصعد إلى المنبر وقال: قضيت في يونين ثلاث سنوات مليئة بالعجائب والغرائب سأرويها لكم شعراً.
فلما إشرأبّت أعناق زملائه المعلمين وأساتذته المحاضرين يبقون معرفة تلك العجائب المحجوبة.
أنشأ يقول:
بيونين قد شاهدت كلّ العجائب فخذ من خبير صادقٍ غير كاذب
رأيت رجالاً يلبسون ثيابهم على الزلط والعينين تحت الحواجب
وكم رجلٍ والشعر يملأ وجهه وكم غادة تبدو بدون شوارب
وفي أرضها ياما رأيت غرائباً سأنشرها حتى تذاع مواهبي
بها الفجر قبل الشمس يظهر دائماً كذا النهر يجري فوق تلك السباسب
وأعجب من هذا وذاك سماؤها تشعّ إذ جنّ الدّجى بالكواكب
حميرهم آذانها في رؤوسها وأذنابها من خلف مثل الثعالب
 

السابق
الشاعر أحمد شعيب بينه وبين الشرقية مسافة اسمها إفريقيا
التالي
السيد عبد الحسين محمود الأمين سليل الحوزات العاملية ترك بصمة