مخطوطات تعود للعام 1883 في مكتبة “العم علي” في العباسية

في ذات المكان يجلس العم علي عز الدين إبن ال95 عاما، منذ ما يقارب الثلاثين عاما يمسك قلمه وورقته يسجل ملاحظاته التي تراوده، يتأمل كعادته نافذته القديمة التي تطل على تاريخ 1880، تاريخ يدون في طياته حقبة لا يعرف تفاصيلها غير تلك المخطوطات القليلة، التي بحوزته والتي تمكن من حفظها، يجلس يشعل سراجه القديم ويبدأ بالقراءة، وحين تسأله عما يقرأ يقول كتاب "سوق المعادن" الذي يعود الى العام 1883 لشيخ شحادة غساني الذي أعيد طباعته لانه جد مهم، فهو يكسب بعدا رابعا من الكتب لأنه يرى أن الكتاب يحمل خبايا ثقافية واسعة".

تكتنز المكتبة التي فتحت أبوابها عام 1984 على 15 مخطوطة، منها مجموعة شحادة غساني 1883،مؤلفة من ستة دفاتر عتيقة تفوح منها رائحة الثقافة الجنوبية القديمة،مخطوطة الشاعرمحمد حمود الذي أرخ لجبل عامل عن طريق الشعر النثري، تحوي كل تفاصيل تلك الحقبة، يوميات وحوارات ولقاءات ثقافية، مخطوطة تروي تاريخ سياد بلدة الدوير من آل إبراهمي، ومخطوطة عن الزكاة يفوق عمرها ال120عاما دونها الشيخ كاظم عز الدين، إضافة الى 8000 كتاب، إلى جانب مجلدات كبيرة.
مكتبة الشيخ علي عز الدين في بلدة العباسية الجنوبية، التي تطل على نافذة مخطوطات نادرة، تروي سيرة حياة، ثقافة، أسواق رجالات جبل عامل في تلك المكتبة التي لا تشبه مثيلاتها لتواضعها،رغم غناها بالكتب التي تفوق الـ8000 كتاب منوع، تذهب في رحلة الى عمق تراث جبل عامل تتعرف عليه، صور لعمالقة جبل عامل الكبار من الشيخ عبد الحسين شرف الدين إلى السيد محسن الأمين إلى المطران جورج حداد، تنتشر على جدران غرفها تكللها شعارات عن المطالعة. تجد نفسك تتنقل من زاوية تنبض بتاريخ مخطوطات، الى زاوية مجلدات الصحف منذ تأسيسها الى شرفة الثقافة الشعرية والدينية، وطبعاً للطفل مكان داخل تلك المكتبة التي تفوح منها رائحة التاريخ العريق لجبل عامل، فهي كانت ملاذ السهريات الثقافية والادبية التي عقدت في داخلها، وحيكت فيها أقاصيص وحزازير شعرية، كل تلك الصورة ما زالت راسخة في ذاكرة عز الدين الذي يفرغها في كتبه الذي يقرأها بنهم رغم كبر عمره" كل شيء من حولي يغرد مع الكتب لأن حياتي لا معنى لها دون الكتب.

ما إن تطأ قدمك تلك المكتبة حتى يتوقف الزمن، فإذا كان كل شيئ في الكون يتبع توقيتاً فإن تلك المكتبة،تتبع توقيت عز الدين،الذي يتحكم به فتارة يوقفه عند مخطوطات يغوص في أعماقها ليسرد تفاصيلها علّه يصل يوماً إلى من يدرك قيمتها، وطوراً يعود بك على جناح الحاضر إلى كتب اليوم التي تعج بها المكتبة بكل مواضيعها وثقافتها العربية والاجنبية،كتب تعبق بالماورائيات ذات نكهة خاصة "أبعدتني عن عالمي الخارجي،فهي رفيقتي سمحت لي بالحلم والسفر للبعيد الى زمن مخطوطاتي، أقرأها بتمعن أتعلم منها سرعان ما يأسف بالقول "لا أجد شعباً شغوفاً على القراءة، لماذا نخاصمها؟، يرمي عينيه على كتاب يحمله وهو يوزع نظراته الزاهدة الى الحياة، نظرات تسللت بين خزائن المكتبة لتؤلف حكاية تاريخ، يبدأ من عند كتب شيخ شحادة غساني القديمة إلى كتب الشيخ محسن شرف الدين وموسى عز الدين وغيرهم.

"وحدهم بسطاء الناس يملكون الثقة في أن ما يقومون به سينجح حتما" مقولة يتمسك بها الشيخ علي عز الدين، غير المتعلّم ولكنه مثقف وهنا مربط الفرس، إذ يمضي الوقت في كنف الكتاب، يردد شعار "صار عمري 90 ويا رب عين" هيدا العمر أحييته بالكتاب، حين اتوقف عن القراءة، تموت روحي، لأن الجلسة في حضرة الكتاب مختلفة، تعلمت الكثير من مكتبتي لانها رسالة لتحسين المستوى الفكري للفرد،وأكثر لم أعد أجد الراحة الا عندما أتأبط بالكتاب أقرأه، وكيف اذا كان يروي تاريخ غابر يخيم على اجواء المكتبة المفعة بتلك الروح".

بين دهاليز أفكاره يأخذك الى حقبات كتبه القديمة التي جمعها من هنا وهناك "أعرف أن ما أقتنيه كنز كبير لا يضاهبه أي كنز أخر في الحياة" يقول كلماته وهو يتوسل الذكريات التي عايشها فترة جمعه لمخطوطاته "أذكر أنني قصدت قرى وبلدات بحثا عن تلك الدفاتر القديمة، بللأسف لا أحد يدرك أهميتها من فترة قيل لي أن هناك عدد من المخطواط ذات الحقبة الثقافية تؤرخ لواقع الثقافة والادب فترة 1880، ولكن أصاحبها رموا بها" بحسرة مفعة بالامل يردد "لا شيء في هذه الحياة يستطيع أن يمنحك السعادة، سوى مكتبه وكتب، تأنسها روحك، أنا لم ولن أتركها مدد".

تنساب أمامه الذكريات التي ترافقه في حضرة كتبه التي أضحت جزء من روحه "أستطيع عبرها أن أجابه الحياة التي تحولت بالنسبة اليّ كتاب ناطق أدون فيه كل هموم أحداث سيّر وأخبار أعيشها" "ومضات تنفخ روحه ما إن يفتح تلك النافذة ،لا يجد كلمات يصف بها تجربته الداخلية مع كتب واحداثيات التراث التاريخ، تقف المعوقات المادية امام شراءه المزيد من الكتب "ولكنني امل أن يملك أولادي الحظ لتطويرها،لقد علمتني مكتبتي أن أرى العالم في حبة رمل،أمسك اللانهاية في زهرة برية، ومنحتني الكتب القدرة على التغلب على شعور الوحدة لأن المكتبة ليست هواية بل رسالة لتحسين مستوى المواطن.

السابق
قبيسي: المجلس لا يأخذ دور الحكومة
التالي
أشغال أتوستراد النبطية – الدوير شارفت على الانتهاء